القائمة الرئيسية

الصفحات

فلسفة مكارم الأخلاق وحقيقة الوصل الإلهي في كلمات الإمام علي "عليه السلام" - دنيا صاحب

 


فلسفة مكارم الأخلاق وحقيقة الوصل الإلهي في كلمات الإمام علي عليه السلام

دنيا صاحب – العراق


لطالما كانت مكارم الأخلاق محورًا جوهريًا في الفلسفة العرفانية، إذ تمثل الجسر الذي يعبر به الإنسان نحو مراتب الكمال، وهي انعكاس للنور الإلهي في الوجود الإنساني. وكما يقول الإمام علي عليه السلام:

 "إنّ الله جعل مكارم الأخلاق ومحاسنها وصلاً بيننا وبينه."

هذه الكلمات تختزل جوهر الرحلة الروحية للإنسان؛ فالأخلاق ليست مجرد سلوك اجتماعي ينظم العلاقات بين البشر، بل هي قانون كوني يحاكي التناغم بين الوجود وخالقه. وكلما تخلّق الإنسان بأخلاق الله، ازداد قربًا منه، لا قربًا ماديًا، بل قربًا وجوديًا تكامليًا يجعل النفس في حالة صفاء ونقاء، تتلقى به إشعاعات النور الإلهي.

ولعل أعظم نموذج للأخلاق الكاملة هو النبي محمد ﷺ، الذي وصفه الله بقوله:

 ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4)

فقد كان الرسول محمد ﷺ مظهرًا حيًّا للأخلاق الإلهية، تجسيدًا للرحمة، والعفو، والسخاء، والصدق، حتى أصبح قدوةً للمؤمنين، ومثالًا للكمال الإنساني الذي يتصل بالله من خلال الأخلاق الفاضلة.

وفي هذا السياق، يبرز السخاء كأحد أسمى الأخلاق التي تعكس العطاء الإلهي في الوجود، إذ يقول الإمام علي عليه السلام:

"السخاءُ خُلق الأنبياء."

وهنا تتجلى فلسفة التكامل بين الإنسان والأنبياء؛ فكل نبي جاء ليكون نموذجًا للأخلاق السامية. ولم يكن السخاء عندهم مجرد بذلٍ للمال، بل كان فيضًا من الرحمة والهدى والعلم والنور. فالسخاء الحقيقي لا يقتصر على المادة، بل يمتد ليشمل العطاء المعنوي، سواء أكان في كلمة طيبة، أو نصيحة مخلصة، أو تضحية في سبيل الحق.

ويؤكد الإمام علي عليه السلام هذه الحقيقة بقوله:

 "أكرمُ الأخلاقِ السخاء."

ولماذا السخاء بالتحديد؟ لأنه فعل يحاكي العطاء الإلهي، حيث يمنح الله بلا حساب، ويوزع نعمه على عباده دون تفريق بين مؤمن وكافر، أو صالح وطالح. وعليه، فالسخاء ليس مجرد فضيلة، بل هو تجلٍّ للرحمة الإلهية داخل قلب الإنسان، وهذا ما يجعله أكرم الأخلاق.

إذا تأملنا في هذه الأقوال بعمق، نجد أنها تكشف عن حقيقة فلسفية عظيمة: الأخلاق ليست فقط وسيلةً للتهذيب، بل هي طريق للوصول إلى الله. فكلما ارتقى الإنسان في مكارم الأخلاق، ازداد قربه من الجوهر الإلهي، لأن الله يحب الأخلاق الطيبة، ويجعلها معيارًا للقرب منه.

إن مكارم الأخلاق، وعلى رأسها السخاء، ليست مجرد أفعال يمارسها الإنسان، بل هي انعكاس لحقيقة الوجود، وتعبير عن الارتباط الروحي بين العبد وربه. فالعظمة الحقيقية لا تكمن في ذات الإنسان، بل في عطائه، ولا يُعرف المرء بقيمته إلا حين يتحقق فيه هذا الوصل النوراني، الذي أشار إليه الإمام بقوله: "وصلاً بيننا وبينه."

وبهذا المعنى، فإن الأخلاق ليست مجرد التزام سلوكي، بل هي لغة الوجود الإلهي في قلب الإنسان. فإذا أشرقت في داخله، انعكس نورها على حياته، وأصبح شعلة مضيئة تهدي غيره، تمامًا كما كان الأنبياء هداة للعالمين.

Reactions

تعليقات