بين شخّتي كلب
غادرت و عشيري "كافي دي موش" عند الغسق. و سرنا على طريق معبّد لا يعرف الصيانة، بين الحفر، تحت فوانيس ترتعش خوفا من أعين خرافيش قد يحملون وشاية إلى البوليس يتّهمونها فيها بإنارة السبيل لمارقيْن عن القانون.
مازال عندنا ثمن تذكرتين و لا غير. حتى حق قرطاس قليبات نتقاسمه في الصنديفات لم يبق.
كنّا نسير في الشارع الطويل نغنّي مقاطع من أغاني الشيخ. لا نعبأ لزمارات السيارات و رفع و خفض اضواءها كي نبتعد عن وسط الطريق. كنّا نخال أنفسنا في مسيرة و من يعترضنا خرافوش صبّاب.
كنا نتتبّع الخط المتواصل حينا و المتقطّع حينا آخر. خيط آريان يقودنا إلى الصنديفات دون أن نحيد عنها . الصنديفات قاعة السينما في فيلاج مدينتي الصّهباء النائمة في سفوح جبال الثالجة مدينة المتلوي عاصمة المناجم.
لم نتوقّف عن الغناء إلا عندما وصلنا امام كرّوسة عم لخياري. أخذنا القليبات كالعادة و حارة سواقر لكل واحد منا و لم ندفع. لم يطالبنا عم لخياري بالثمن. هو يتعامل هكذا " ما عندكش هز. وقت ما ينوب ربّي خلّص". لا يقيّد الدين في كنش و لا يتذكّر من أخذ و ماذا أخذ . إذا أعطيته أمسك و لا يحسب مع دعيوة خير "يخلّص وحلك" و اذا اخذت و انت مدين له لا يطالبك بالدين تأخذ حاجتك و تمضي. لذلك يستحي الواحد مهما وصلت به الدّناءة أن يقلب عم لخياري و لو بعد سنة، بل قد يزيد الفائدة احيانا و هو راض.
أما صليح بائع التذاكر لا يقتطع التذكرة حتى يقبض و اذا قال له أحدهم :" عم صليح ما ماعنديش مياوخمسين، ما عندي كان مياوعشرين" يقول له :"برّة دور وراء الصالة تو تلقى شكون يكمّلك".
اعطيت الى صليح كلّ ما نملك و لم يبق معنا من متاع الدنيا سوى السجائر التي أخذناها من عم لخياري. دخلنا. و القاعة قاربت على الامتلاء.
لم نكد نجلس حتى انطفأت الأنوار و اندفع لحن أرمونيكا حزين يشقّ ظلام الصنديفات. نقطة مضيئة في قلب الشاشة. تكبر و تكبر . كلب يلهث في طريق ترابي يتتبّع الشمس عند الضّحى. في الافق تلوح بلدة تكبر و تكبر مع كل خطوة يخطوها الكلب.
الكلب يدخل ساحة. يشرب من بركة تركركت من بول حصان. ثمّ يتوقّف في قلب الساحة يرفع رجله و يوجّه الى سارية تنتصب فيها عاليا. يرفرف في قمّتها علم. أيّ كلب هذا ! يرجع الصّرف أسرع من بشلولة في المرشي. بشلولة لا يرجع الصرف حتى يكاد الحريف ينفجر و اسعاره يستمدّها مباشرة من وزارة التجارة بلاواسطة و لارقيب . و اذا احتج حريف على الزيادة " برّة اشكي للحاكم كان ما شو عاجبك" يفضّل الدخول إلى السجن على دفع خطايا مراقبة الأسعار. لا يهجره المشترون لأنه يمسك عنهم كنّشات الكريدي. أغلب سكان المدينة مدين له، عنده كنّش عند بشلولة . مرّة، اخذ أحدهم كيلو سكّر و ذهب و لم يقيّده بشلولة نظرا لانشغاله مع حريف آخر. لمّا تذكّر ، أمر صانعه بتقييد كيلو سكر على جميع الكنشات و هكذا لن ينجو بفعلته االهارب.
بال الكلب ثمّ استلقي في ظل العلم. و الذباب يحوم حوله. يقرصه فيحرّك ذيله أو يذبّ برجله عن وجهه. وهو كذلك ، إذ قطع راحته وقع سنابك خيل تقترب.
تخلو الساحة و لا يبقى فيها سوى الكلب. يترجّل شرذمة من الأوباش عليهم معاطف لم تعرف الماء قطّ . يدخلون الى الصالون.
تندفع الارمونيكا الحزينة
لم يلبث الكلب أن عاود النوم حتى اضطربت الارض مرّة اخرى. لفيف من الأنذال يدخلون الصالون.
تتواجه العصابتان بالمسدّسات لأجل مَن مِن هؤلاء الرّعاع يستأثر بعاهرات الطابق العلوي.
يشهر البارمان بندقية متعدّدة الطلقات؛
- انا ضدّ من يطلق أوّلا منكم النار.من يريد اللعب و الشرب مرحبا. لتكن التسلية للرّابح.
جميعهم يعرف براعته في الرماية. تتقابل العصابتان حول طاولة بوكر و قوارير من الويسكي. اتهمت إحدى الزّمرتين لاعبا من الزمرة الأخرى بالغش. فلعبت الخمرة بالرؤوس. و لعلع الرصاص.
يتصاعد الدخان ثمّ ينجلي على رهوط تترنّح. يجهز عليها الشريف الذي وصل عند نهاية المعركة. و كمكافئة له على تحقيق العدالة و تخليص البلدة من المارقين على القانون يصعد إلى الطابق العلوي.
يعاود الكلب النوم بعد أن استتبّ الهدوء. و لحن الارمونيكا الحزين.
فجاءة، يمزّق السكون طلق ناريّ خافت، لا يسمعه البشر لكن تسمعه الكلاب جعله ينتصب و يقف على قدميه.
لقد أطلقت إحدى شاغلات الطابق العلوي على الشريف النار وهو عريان زنط في غرفتها و أردته فتيلا. من مسدس ذهبي صغير، كانت تخفيه بين نهديها الفارهين موّهه الصّانع بين تضاريس جعران ذهبيّ تعلّقه القينة تميمة في رقبتها لا تنزعها أبدأ. أطلقت عليه لأنه كان يريد مفاحشتها و هذا محرّم في عقيدتها. إذ هي ترضى أن تبيع قُبُلها بمقابل و لا تقبل أن يُمسّ دبرها و لو أدّى ذلك إلى القتل.
اشترطت عليه، لمّا استقوى عليها و علمت أن لا فائدة من المقاومة، أن تغمض له عينيه بعصابة قبل مواقعتها. و أعطته طلقة في يافوخه اخترقت العظم القذالي و ثقبت له ثقبا في قفاه الأملس كمؤخّرتها ظهر كثقبها الذي كان قبل لحظات يريد افتضاضه.
خوفا من انتقام جماعيّ قد تقترفه الدّهماء الغاضبة من أهل البلدة. تهرب جميع الفتيات يرافقهنّ البارمان الذي كان متعلّقا بالقاتلة.
رأى الكلب الفتيات و البارمان وهم يتسلّلون تحت شمس حارقة عند الهجير فرضت على الجميع حظر التجوّل.
لا ينبح و لايكترث لما يحصل. يعاود التمدّد و يغمض عينيه بعد أن عدّل موقعه حسب دوران عقارب الساعة حول السارية. و الارمونيكا تعزف لحن الهروب
يتململ الشريف يجرّ جثّته و ما بقي فيها من رمق أخير. يطلق طلقة من مسدّسه المدوّي و يطلق معها نفسه الاخير. يهرع السكان إلى مصدر الدّويّ. بعد جلاء الحيرة يعقدون اجتماعا في الساحة. و يعلو الصخب. ثمّ يؤلّفون فرقة لملاحقة الفارّين.
و الكلب نائم يدور مع الظل حيث يدور العلم . لماذا يشغل باله بهذا الجنون. في كل ساعة إطلاق و في كل لحظة فراق.
بعد اقتفاء الأثر و مطاردة بالخيول. تحاصر الفرقة المطلوبين للعدالة في فجوة بين الصخور. تجري جولة من إطلاق النار و يغمّ المكان دخان البارود. تنفد ذخيرة الفتيات فيستسلمن و يستسلم البارمان الذي لم يحمل معه بندقيّته متعدّدة الاطلاق. هو يعرف انه بريء و لا يحتاج إلى الدفاع عن نفسه. لو احضر بندقيته لما ترك واحدا من هؤلاء واقفا. لكنّه غادر كي يكون قريبا من معشوقته. يتقاسم أعضاء الفرقة النساء حيث كان النصيب واحدة لكل واحد. يردفها أمامه على حصانه لأن أحصنتهن قد تسلّل إليها أحد المهاجمين قبل المعركة و أطلقها ففرّت إلى البرّيّة. ربطوا البارمان و جرّوه مقيّدا وراء حصان.
داهمهم المطر في طريق العودة فآووا إلى منزل مهجور في مزرعة محروقة. قضى كل واحد منهم وطره من رديفته. و عند انقشاع السحابة أسرجوا الخيول و جرّوا البارمان خلفهم.
لمّا وصلوا نصبوا مشنقة في قلب الساحة . ربطوا حبلا في ذراع أفقية تخرج من سارية العلم أعدّت لتنفيذ الأحكام باسم القانون . أوقفوا البارمان على حمار. أعدموه بعد محاكمة صوريّة سريعة بتهمة قتل الشريف. و معشوقته تنظر إليه يتأرجح و الدّمع في عينيها من شباك غرفتها في الطابق العلوي. قبل أن يقول اِرْ للحمار تقدّم الجلاد من البارمان و طلب منه ان كانت له آخر أمنية. أرسل قبلة إلى النافذة مباشرة أن تكسّر العقدة عنقه.
جثّة البارمان مسجّاة حيث يرقد الكلب. لا أحد يكترث لكلب متشرّد.
الكلب ينظر إلى وجه البارمان الميّت ثمّ يتمدّد في هدوء حذوه. على الأقل، أصبح هناك واحد لم يعد مزعجا.
ينصّب السكان شريفا جديدا لضبط النظام و كان ناكح القاتلة في البيت المهجور في المزرعة المحروقة. كما أجروا مزايدة على البار. فاز بها أحدهم و صار البارمان و صاحب البيوت المغلقة في الطابق العلوي الذي أرجعوا إليه الهاربات اللّائي لا يحقّ لأيّ واحدة منهنّ مغادرة غرفتها لأنها تعتبر قينة يتصرّف فيها صاحب رأس مال.
يصعد الشريف الجديد الى الطابق العلويّ. يدخل غرفة الفتاة القاتلة. يغلق الباب. يتجرّدان. يطلب منها نفس طلب الشريف القتيل!
في البار تتواصل الحياة، خمر و ميسر و رقص و مومسات.
كلب يرفع رجله الخلفية موجّها إلى سارية في قلب الساحة يرفرف في قمّتها علم ثمّ يواصل السير على الطريق الترابي الطويل يتتبّع الشمس التي تتوجّه إلى الغروب و لحن الارمونيكا الحزين يتلاشى و الصورة تنكمشش حتى استحالت نقطة على الشاشة...النهاية
أفاق عشيري من سباته لما اشتعلت أنوار القاعة. و قد سال اللّعاب من فيه على سترته الدجين الجديدة و انتشرت منه رائحة المرناق بالعجّة مرقاز :" ملّة كلب! شفت خليلي الحيوانات الكل غلبها و شخّ على الدّنيا كما حب و استراد "
ناولته منديلا ورقيّا: امسح فيستّك يا عشيري و هيّا نروّحو.
خرجنا من الصنديفات و تفرّق الجمع شراذم في شوارع المدينة الصهباء النائمة تحت غطاء من الغبار الثقيل تطلقه مداخن غسالات الفسفاط.
انعطفنا و مررنا امام الكولوما ثم قمرق عبدالسلام و فارماسي القيطوني نعبر الشارع الطويل بين بيرو الاومبوش و مقر إدارة شركة الفوسفاط و حي سنكو سيس على اليمين و الوزينة على اليسار هكذا نسمّي مغسلة الفسطاط. نساير الكنفوايور ذاك الجسر الحديدي المعلّق النّاقل لخامات الفسفاط من جبل كاف الشفاير إلى الوزينة . كان القمر يطل علينا بينة الفينة و الفينة تارة من فوقه و تارة من تحته . حتى وصلنا إلى سكّة الحديد فانعطفنا إلى اليسار و لم يعترضنا ديّار. كانت "بتي باري"، و هذه كنية مدينة المتلوي، تغطّ في نوم عميق. ليس هناك ضوء يضيء في الملاجي سوى ومضات سجائر تومض و تنطفئ عند بعض منعطفات الحي المظلمة. الجميع في المدينة الصهباء يعرف بعضهم. هذه ومضة قنجورة و تلك ومضة كعبورة و ذاك الذي عند عمود الكهرباء بوتليّس يترصّد بالحجارة كرهبة البوليس ليس لها الحق في دخول الحي.
لمّا وصلنا إلى المرشي ألفيناه هامدا ساكنا سكون القبور بعد أن كان في النهار صاخبا يعجّ بالباعة و النصّابة و الغاديين و الرائحين. عند مرورنا أمام حانوت بشلولة جعلنا نغنّي بأعلى صوتنا عن محمد بشلولة. أبيات تخلّد معركة جبل قبرار في قمّودة سنة 1954 بقيادة القائد الشهيد محمد بشلولة ضد الاستعمار الفرنسي و الذي صمد مع المجاهدين رغم تفوّق العدوّ في العدد والعتاد و استشهدوا صامدين و لم ترهبهم طائرات العدو:
نْهَيِّرْ بَشْلُولَة و مِتْيَصِّلْ ^ مِنْ سَـــاسْ فحُــولَــهْ.
بَشْـلُـــولَـة حَــــــارْ ^ بَشْـلُولَة بُـوعْصَابَة حَــارَ.
نْــهَـارِيــنْ مْعـَـاهِـمْ ^ والثَّالِثْ بِالــحَبْ شْوَاهِمْ.
كــَـافِـرْ عَــــڨْــدَاهْ ^ ضَرْبُو بِالمُـــوزِرْ تَـكَّــــاهْ.
وِلْــدْ أُخْـتُــه حْــذَاهْ ^ خَرْخَطْ لُعْصَـابَة غَضْبَــانْ.
و نَوِّضْ فِي عْـڨَابُو لُعْمَـــارْ."
صاح حارس المرشي و جرى وراءنا يلوّح بهراوته. لاح في آخر الشارع ضوء فانوسيْ سيارة نعرفها جيّدا. أفقنا و كسرنا الى اليسار في العدو إلى حي السّوافة المحاذي للمرشي. احتضنتنا أزقّته الضيّقة و أنقذتنا من ليلة إيقاف في المخفر و ما تابعها من ملحقات الضّيافة.
بتنا ليلتها عندي. قبل النوم سأل عشيري:
- خليلي وش بيه ما يحبّوناش نغنّوا غناء الشيخ إمام و لا على الشهيد محمد العكرمي بشلولة.
- خليلي، البلاد راقدة و ما يحبّوهاش تنوض. ارقد حتى انت و غم على راسك. و غدوة مولاها ربّي. قَرْيِسْ قرجومتك بجغمة زيت زيتونة بعّد ما تفيق من الثّمنة. بعد غدوة عندنا مسيرة تنطلق من دار الاتحاد حتى إلى لاقار امام محطّة القطار.
(جمال الطرودي /تونس)
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع