علي السعيدي
يا لهذا الصمت الغريب، الآسر، المرعب، الذي يحنق الروح، صمت هذه القبور، الترابية، الغالية، الرخيصة، الممسوخة شواهدها الرخامي، المحفورة بماء الفضة.. منثورة هنا وهناك مثل أفراد جيش مهزوم كل قبر يحكي قصة.. وكل قصة يخكي حياة، وكل حياة تعلن عنها شاهدة من رخام، أو شمعة مهملة، أو وردة ميتة، أو قطعة بخور تركت رائحتها واختفت في الرياح
آلاف الحكايات الموجعة، المبكية، المؤلمة، فوق مئات القبور، شمالا وشرقا، جنوبا وغربا، مثل طيور أصابها صياد ماهر واسقطها مرة واحدة، وانتشرت في حدود مسفة واحدة، كل حكاية تحكي تاريخ إنسان مات، أزهار وبخور وأشجار على قبر عال وتراب منثور عليه، سعفة نخل واحدة، قبور فقيرة، وقبور غنية، الله واحد، والناس عديدون..
الشواهد تصرخ تئن، تعلن أسماء منسية، رجال وبطولات احتراق أجساد ضيع أجساد بشرية، في جبل ما، هويات لم يسجلها التاريخ، ولم يعرفها أحد بعد، بطولات منسية وأسماء أزالها الزمن من الذاكرة..
أقرأ الفاتحة على روح العمل المنجمي "سليمان….”
المأسوف على شبابه، مات في السادسة والعشرين داهمه الفسفاط، ومات داخل الداموس سنة 1979. قبور تضحك من أعمارها، من أجل إحصاء عمرها، هنا عمل معروف، وهناك آخر مات ولم يستطع فيالق العمال تمييز رأسه من قدميه…
"يا قارئا كتابي ابك على شبابي، بالأمس كنت حيا واليوم تحت التراب” قبر العامل المنجمي علي … 1982. آلاف المآسي على جبهة آلاف القبور آلاف الأمهات على نغم واحد من البكاء والصبر و..و..
تمتد إلى اسفل القبور جذور الاكليل والكالاتوس والنخيل … مئات الشواهد تحمل مئات التواريخ منذ حل المهندس الفرنسي فيليب توماس (*) في هذه الربوع منذ القرن الماضي …
مئات الامتار من الحصى والاسمنت لم تستطع ابدا إخفاء الذكريات الأليمة، عن شهداء منسيين ماتوا واستشهدوا من أجل رغيب الخبز..
في مساء كل خميس، كان ثمة رجل مسن محدودب الظهر يسير بخطى بطيئة متزنة، وما إن يصل القبر ويجلس قربه ويرفع يديه ثم يقرأ الفاتحة مرتين، ويقرأ سورة "الكوثر” و”النصر” عشرين مرة أو يزيد، ثم يوقد شمعتين وحفنة منالبخور ويغسل القبر بالماء، يمسحه من ذرات التربة، ومن أوراق الشجر الصفراء .. لكنه مهما حاول أن يخفي دموعه يتكسر في آخر لحظة ويجهش في بكاء عجيب
هذا الرجل العحوز قصة عذال لا يكاد المرء يصدقها بسهولة فمنذ رأيته لآول مرة قبل ما يقرب من سنة كاملة وهو يتردد على هذا القبر النظيف كنت أشفق عليه وأفكر فيه، عجوز في آخر العمر ليس له سوى قبر ابنه يعتني به وينثر فوقه الزهور ويمسحه من الأوساخ ويبعد عنه الحشرات والنمل والطيور العنيدة التي ترمي قذارتها فوق القبر الطويل .. ليس له من أحلام أو مال أو حياة غير اجترار الذكريات: إنها الغذاء الوحيد الذي بات يسري في العروق
مازال صوته يدق في اعلى جمجمتي وهو يردد بصوت فاجع: لماذا لم تمت بين يديّ ؟
كان ينظر إلى القبور المنثورة حوله إلى الشواهد الرخامية هنا وهناك، فيرى كل شاهدة تحكي جزءا من مأساة ابنه، كأن القبور كلها قبر ابنه .. لهذا كان يبكي آلاف المرات
كان عمي رحمه الله يأتي كثيرا إلى هذه المقبرة وكنت أرافقه دائما .. أساعده في رش قبر ابن عمي الذي مات في حادث سنة 1978 المعروف داخل الداموس أقطف الزهور واضعها على رأس ابن عمي .. كنت أحبه فعلا وكان عمي يقول لي في كل زيارة إلى المقبرة : هل ترى هذا القبر يا ولدي؟ انه قبر ابن عمك الذي وافته المنية وهو يصارع غمار الفسفاط في أعماق الداموس
لكن ما إن مرت على وفاته سنة واحدة فقط حتى نسيه الجميع سيما وقد مات عمي أيضا، وقد بقيت وحدي اعتني به وأحاول أن أمسح قبره من الأوساخ والأوراق
بل تبرعت بسقي شجرة الاكليل فقد كان يحب رائحة الاكليل، مما جعلنا نزرع حوله هذه الشجرة
أما هذا الخميس فقد التقيت ثانية بالرجل العجوز يبكي عند قبر ابنه رحت اتأمل القبر والرجل المسن صمته وحزنه والشموع التي راح نورها يشع حول القبر والبخور الذي ملأ المكان برائحته
بعد قليل هم العجوز بترك المقبرة لأول مرة يغادر المقبرة أمامي وقبل أن يصل باب المقبرة قلت له: أرجوك أن تنتظر ..
لكنه مضى في طريقه دون أن يلتفت وتركني أوزع نظراتي بين القبور ثم فجأة ظهر الرجل المسن خلف ظهري زراح يربت فوق راسي وهو يقول:
- إنها يا ولدي مقبرة بلا جثث
________________
المهندس الفرنسي مكتشف الفسفاط في ربوع المناجم
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع