أنا و الوقت
*********
على طاولة مشروخة
في الرّكن الخالي للحياة
بعيدا هناك ...
عن عيون الفضوليين
ينفرد الوقت بي
يقدّم له المكان
كامل حياتي مفصّلة
في فنجان أسود اللّون
مضيفا لها كمّا هائلا من العقبات
و طابورا طويلا من المستحيلات
بأنامل الأيّام الصلبة
يحرّكها حتّى اللاّكفاية
يريد إخفائي بالذوبان
يغمى عليّ من كثرة الدوران
أرسب في القعر
ثمّ أطفو على السطح
يتذوّقني مرّة ثمّ أخري
يرتشفني على مهل
رشفة ... رشفة...
يمطّط شفتيه الغليظتين
بين الرّشفة و الأخري
يعصرني بينهما
يعجبه مذاقي
تسحره مرارة واقعي
تسكره نكهة حنظلي
يشعل سيجارة على نخبي
ثمّ أخرى ... و أخرى ...
يفتح سجلّ أيّامي
تزداد تجاعيده تقلّصا
يصير لونه أكثر قتامة
يسخر من ماضيّ و حاضري
يطمس صورتي المتلألئة
يغرقها في بحيرة العذاب
ينكّل بما نجى منها
في أحد أركان الفنجان
يرسم ملامحا أخرى
لا تشبهني بتاتا
طالبني بالقبول و الرّضا
فقلّبت وجهي في السماء
لا انفراج في أفق
من أين يأتي.. ؟
لا شيء أرى ..!
غير سحابة دخان تغطّينا
و مصابيح إنطفأت كلّها
حينما خبّأ النهار ضياءه
كانت حقائب السّنين تنتظر
لا موعد لي مع السّفر
يأمرني جليسي بالوقوف
و أمام حشد من الساعات
يركل أحلامي البسيطة
فيمضي العمر مبتورا
تاركا شذرات متناثرة
فوق أرصفة بلا شوارع
حائر أنا لست أدري ...
إلى أين .!؟
أو أين أمضي .!؟
أيّا من الاتّجاهات أقصد !؟
لأسمع الزّمن وقع أقدامي
و الصدى للأرصفة
لكنّ الأفراح تخونني
في مفترق الأيّام
تهجرني الأحبّة
لا أحد يكترث بقلقي
سوى هدأة اللّيل
سكون ضجيجها
يدوّي في أعماقي
خاوية على عروشها
هي السنون ...
واهية و مستباحة
تفتح على كلّ الأزمات
أرى المواسم واجمة
تبادرني بالعزاء ...
يالهول ما أرى ..!
الخفافيش فوقها أسراب
في مناقيرها غبار البراري
على أجنحتها ظلمة الكهوف
و أوراق كثيرة صفراء
بعد أيّام يحلّ الخريف
و محصول الصّيف صفر
لا صفو لوجودي
أتعبني الواقع الأليم
ضاع شبابي الغضّ
كم تمنّيت النّفاذ
إلى أرض غير الأرض
أو إلى سماء غير السّماء
و كم خابت أمنياتي
صمت المكان يصمّ آذاني
يولد الكلام و يموت
بحسرته فوق لساني
تخذلني زفراتي
فلا أنبس بأيّ بيان
يتلاشى النّور في عينيّ
يهزأ بحياتي كلّها
من بدئها إلى آخرها
يخطف بريق الشّمس منها
يحصي خيباتي
و سقوطي و عثراتي
عندئذ صرخت من أعماقي :
أيّها الوقت العابث قل لي
مالي أنا و أعباء الدهر . ! ؟
طالما بعت لي وعودا زائفة
تقلتني في غدوّك و رواحك
في صباحك و مسائك
تهجّرني من مكان إلى مكان
إعلم أنّي لن أترجّاك ...
و أنّي أحبّ العيش ...
و الحياة تنزّ من حنايا القلب
نبعها دائم التدفّق ...
أبدا ينضب ... أبدا ينضب ...
* صادق الهمامي / تونس
متابعة / روضة الادباء العرب
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع