فرسان الظل2 …
نتيجة عملي لسنوات عدة بالجبال والغابات تحت الظل المنكسر لوطني ،شربت ماء الصهريج المخزن لأشهر... كنت انزل عبر فتحته العريضة إلى جوفه لأكمش الخزّ وأرميه خارجا ، أبيت مقرورا وأحيانا أتغطى بقطعة «مشمّع» بلاستيك فوق باطنية أمي الصوفية لان سقف مسكن المدرسة- الذي هو عبارة عن غرفة وحيدة مشققة بها المطبخ ودورة اللامياه -يقطر من كل فج عميق ...
اسهر الساعات احضر واجباتي المهنية على بؤرة ضوء قازة تنوح وسط العتمة .في غالب الأحيان ،أبيت خاوي البطن إلا من بعض الحلويات الدياري أو البسكويت مع البيض المسلوق لعدم توفر دكان للتزوّد بالمؤونة، نبلل بعض قطع الخبز القديمة ولا نخاف من البكتيريا التي تتوالد بها، لا نعرف الخبز الساخن إلا عندما نعود إلى عائلاتنا أو يتكرم علينا بعض الأهالي بقليل من الكسرة. وهم يقطعون كيلومترات للوصول إلينا فلم يكن للمدرسة جيران غير بعض الخنازير البرية ،تقلق راحتنا ليلا ....
-كيف هي حال المعلمين في هذا البرد القارص الذي فرض عليهم الحصار ؟؟؟
هكذا يرددون وكأننا لاجئون في وطننا ...
أحيانا أخرى، نبقى مدة من العطلة نترقب أن تجف الطريق من الوحل ،وقد تتوفر لنا فرصة ينحبس فيها المطر فتغمرنا السعادة.. ها انه ستفك عزلتنا ..نحضر لوازمنا في جو من الغبطة بملاقاة العائلة.. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ،نستفيق على هطول الأمطار لنبقى نتحين فرصة أخرى لفك الحصار.. وهكذا يمضي شطر العطلة او أكثر في انتظار فرج قد لا ياتي ...
اليوم وقد بلغت من العمر عتيّا. اشعر بالفخر أنني كنت أؤدي واجبا :
....أحارب الجهل في منابته ...
لكن من يحارب معي فقري .. استفقت على أمراض مزمنة ،أجريت عملية على الدوالي وأخرى على الكلى ولا زلت اكسر الحصى بأشعة الليزر كل سنة.. هذه السنة لم تعد الكلى قادرة على تقبل الأشعة لكن الصندوق رفض التكفل بعملية المنظار لأنها ربما تكون مكلفة. ماذا ينتظرون من المريض أن يختار المرض الذي سيصاب به أو أن يموت حتى يريحهم من مصاريف التغطية الاجتماعية التي تقتطع من مرتبه ...
لا أزال أشكو ارتفاعا مزمنا في الضغط .كاد يؤدي بحياتي ذات جلطة دماغية ...برد مزمن في المفاصل...دوالي تقيد ساقيّ رغم نحافة جسمي..كلى ستتوقف على العمل ...أسنان تهدمت ....آخ أسناني !نعم أسناني ،اليوم بالذات ،قصدت الطبيبة فقد صرت أَدردَ في سن لا تعكس هذه الحقيقة المرة إلا من بعض بقايا عاج مفخّخ بالكالكير ...وضعت الطبيبة القالب في فمي وبدأت حديثها ،الحقيقة هي صديقة وطبيبة رائعة،إنسانة خلوق وتقدس مهنتها كما هي حال جل الأطباء الذين مررت بهم في مسلسل أمراضي الذي لم ولن تنتهي حلقاته :
-سي فوزي لماذا هذه الاضرابات ؟لماذا تجعلون من أبنائنا رهائن .....؟؟؟
قاسمتها الشعور،وانأ النقابي، في اغلب ما قالته إلا أنني أخالفها في جوانب عدة .كنت أتنحنح ،ابتلع ريقي وأومئ بالإشارة...
خاطبتني في استغراب:
-هل يؤلمك" القالب"؟؟؟
أومأت بنعم دون أن اقدر على الكلام لكنه ليس السبب الوحيد فانا نفسي لا اعرف حقا ما يؤلمني وقد تعددت المسببات حتى اختلط عليّ الأمر .....
-معذرة لم يبق الكثير ،قليلا من الصبر فقط
هكذا خاطبتني مواصلة حديثها وانأ أحاول أن...
أكملت طبيبتي عملها على أحسن وجه وأزالت القالب الذي سد فمي ليجعلني أخرس
بادرتها :
-سأروي لك حكاية قصيرة :«لما كان الحلاق يحلق ذقن الملك والموسى على رقبته سأله :
-مولاي لماذا لا يزوج الملوك بناتهم للحلاقين ؟
تنحنح الملك ثم رد:
-لم يطلبونا فلم نزوجهم ...
ثم أن الحلاق أتم مهمته ورفع الموسى عن عنق الملك وهم بطلبه لكن الأخير سارعه بأمر الجلاد بقطع رقبته....
فهمت الطبيبة أنها كانت تغلق فمي بذاك القالب اللعين ولم تترك لي مجالا للردّ فندت عنها ابتسامة عريضة كأنها تطلب المعذرة ....
أكملنا حديثنا بما يسمح به الوقت ،ثم وانأ أغادر العيادة خاطبتها :
-ها أن البرد افقدني معظم أسناني السليمة!ولكن المأساة تكمن في ان بعض الأضراس الخبيثة لا تزال قابعة رغم تسوسها وما تخلفه من الم ينخر العظام ...
رافقتني إلى الباب ولا تزال الابتسامة العريضة متهللة على وجهها ...
تفطنت وأنا في الشارع أنني لم انقدها فلسا ابيض ولكنني لا املك من البياض غير مرتب مسلوب وأسنان اصطناعية وان الأضراس المسوّسة لم تقتلع بعد ليزول الألم...يتبع....
متابعة سهام بن حمودة
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع