منذ أسابيع،عدت إلى"العشّ الجغرافيّ المعزول" فقد فرضت الطّبيعة عزلة على الرّيف و لم يزدها ضعف التنمية إلّا قسوة.
لم أغادر المنزل لشدّة برودة الطّقس..و كانت أمّي تمنعني في كلّ مرّة كلّما هممت بالخروج خوفا لعلّ مكروها يصيب ابنتها البكر..
لم تكن على دراية بذاك الحنين الذي يجذبني إلى الأراضي المنبسطة و لا سيّما حقل جدّي.
انتعلت حذائي و هرعت إلى الحقل..يشدّني شوق غريب لرؤية شخص غير موجود به..كنت أسارع الخطى ملتفتة يمينا و شِمالا عسى أحدهم يرى جسمي الهزيل يجوب ثنايا الحقل..كنت أسير كتائه بأرض غريبة دون دليل يرشده.
مشيت كثيرا حتّى أجهدني السّير فاتّخذت العشب بساطا تمدّدت عليه..قلّبت بصري في كلّ شبر من الأرض،تنفّست بعمق،أرخيت أناملي لأقطف زهرة البابونج و أنتف بتلاتها واحدة تلو الأخرى مردّدة تلك الجملة الشّهيرة"سأنجح أم لا"...
هنا،في حقل جدّي تمتزج رائحة المكان بعطر البداوة المفعم بالأصالة..تمتزج رائحة المكان بعطر الزّهور و طنين النّحل..فيصبح الحقل ملاذا تستمدّ منه الهدوء و السّكينة..
و حينما يكون المكان المعنيّ هو أرض فسيحة فإنّ الأمر يتجاوز التنزّه إلى مرافئ الطمأنينة بعيدا عن ضوضاء المدينة و الحنين إلى الماضي السّعيد الذي طوته أغبرة الزّمن مع مشية جدّي -رحمه الله- و عكّازه الذي لا يفارقه البتّة..كان يمشي بتؤدة ليتفحّص كلّ غصن زيتون..
أذكر جيّدا عندما كنت أتبعه خلسة علّ والدي يتقفّى أثري و يربكني بأسئلته الكثيرة..
في هذا المكان كلّ شيء لامسته يد التّغيير و التّحديث..بدأت البنايات تزحف شيئا فشيئا على تلك الرّقعة إلاّ أنّها ظلّت تقاوم الزّمن رغم تبدّل الأحوال و تغيّر المناخ لتقف شامخة شاهدة على الماضي الجميل الذي ولّى مع شيوخ القرية..
"الذّاكرة خؤون"..لكنّها لم تخنّي هاته المرّة، فمازلت أتذكّر كلمات جدّي حينما كان يمسك سنبلة القمح و يتمتم"الأيّام راحت مع كبارها" و ها أنا اليوم أردّد نفس الكلمات..
رحل جدّي و في كلّ شبر من التّراب أشمّ رائحته..أرى مشيته..أسمع همسه...
صباح ربيعيّ زمن الكورونا..
#مروى زيتوني
تونس
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع