هذه أمي ستحبها دون شك...
كانت أمي لا تعلم شيئا عن وحشية العالم ومنافقيه وخونته، عاشت سيدة طيبة القلب بيضاء السريرة، تحب الناس تستمع لحديثهم طويلا، لكنها لا تعقب أو تقاطع أحدا منهم، إيمانا منها أن ذلك قد يجرحهم، وأنك أحيانا ستهدي للإنسان خيرا كبيرا حين تنصت له فقط. فنص نساء الدوار مدينات لأمي بجلسات استماع طويلة، فقد كانت بئرا عميقة تحفظ كل ما تسمعه، ولم يحدث قط أن أؤتمنت على سر أو بوح وأذاعته...
هي أمي لا تنتظر منها أن تحدثك عن الانتخابات الأمريكية أو كم صار ثمن برميل النفط، أو من يحاول جاهدا رسم خريطة الصلح بيم إسرائيل والعرب، أو عن لون بذلة رئيس حكومتنا، ومعدل البطالة، ونسبة تضخم المديونية الخارجية، أمي لا تعرف أن الأرض بيضاوية الشكل، لكنها تعرف أن الأرض أمنا الثانية، منها وإليها سنعود، وأن كل من يفرط بأرضه أو يبيعها لا تقبل بركاته.
وفي أحايين كثيرة تساءلت ترى ماذا كان سيحدث لو كانت أمي من اللواتي يلبسن سراويل طويلة ويطلقن شعرهن إلى الوراء، ويضعن مفاتيح سيارتهن على الطاولة كلما سمحت بذلك الفرصة، ليخبرنك أنهن من سيدات المجتمع ؟!
أكيد لو كانت أمي غير ما هي عليه، لكنت شخصا آخر ولكانت نظرتي للحياة مغايرة تماما لهذه النظرة البسيطة، ولكانت حقيقة الكون في عيوني ضبابية بعض الشيء، ولكنت أستنجد بها كل عاصفة. لكني سعيد لما أنا عليه ومدين لأمي التي جعلتني أغسل ملابسي كل يوم أحد، بعد عودتي من رحلتي المدرسية، مدين لها حين كانت توقظني فجرا لأستقل الحافلة اإلى الجهة الأخرى من المدينة، لأتابع دراستي الجامعية، مدين لها حين كانت تتحرك ببطء داخل البيت كي لا تزعجني وأنا أدرس. مدين لها حين كانت تحكي لي عن ابن جارتنا المهندس الذي تسلق سلم النجاح كلما رأت على وجهي علامات الاستسلام والقهر. مدين لها حين كانت تحذرني من بنات المدينة وكلامهن المعسول، مدين لوصفاتها البسيطة والغريبة في الشفاء، مدين لكل دعواتها الفجرية، مدين لقصصها الليلية عن الغول والفلاح الشجاع عن الجنيات ومغازلتهن للشاب الوحيد وتكبره أمامهن. مدين لها بكأس الشاي المنعنع والخبز الصباحي المعجون بكل الحب والفرح. مدين لها بأغنيات البيت البسيطة التي ترددها وهي تغزل الصوف لتصنع لي جلبابا يقيني صقيع الخارج. مدين لها بكل الوصايا التي رتلت علي قبل مغادرتي البيت في كل سفر...
هذه كانت أمي وقد تكون أمك أيضا، ليس عيبا أنهن كن أميات غير متعلمات حسب التعبير المدرسي الحديث. لكنهن علمننا كيف نواجه الحياة بكل شجاعة وأمل، وهذا هو التحدي الذي تطارده بلا هوادة كل مدارس العالم وتراهن عليه.
شكرا أمي لأني كلما سقطت أو تكالبت الحياة علي، سمعت صوتك ونظرة إلى وجهك الأبيض الطيب، وتزودت بصبيب وجرعات لا محدودة من العزم والقوة والطمأنينة، لكن كل خوفي أن أمي تكبر كل يوم، وهذا الرعب الحقيقي الذي لم أجد له طمأنينة...
عزيز الزروال / المغرب
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع