الصراريد - نصر العماري
"الصراريد "بقلم نصر العماري
كان الاحتفال مهيبا بدون شغب المواطنين. واقتصر في هذا الظرف الصّحي على عدد من قوات الأمن في زيهم العسكري، يؤدون التّحية المسلحة على أنغام النشيد الرسمي وارتفاع العلم خفاقا أمام كبار مسؤولي الجهة والسّادة. الذين كانوا يقفون في خشوع والكمامات على أفواههم محترمين البروتوكول الصحي .
أشرف الاحتفال على نهايته مع آخر مقطع من نشيد الثورة ، نموت ونحيا على عهدها حياة الكرام وموت العظام . وصرخ آمر قوات الأمن بصوته الجهوري ليختتم الاحتتفال،
"نكّبْ سِلا....حِكْ"...
كان مبارك يحتمي بقشّابيتة الشّخمة على حافة الوادي شرقي المدينة، ملقى على "عين قفاه" الى شجرة الكالتوس الضخمة ،الى جذورها الملتوية وهي تشدّ أديم هذه التّربة المعطاء تتشبّث بها بكل قوّة علّها تنتصر على عجرفة الانجراف الجارف الذي أكل أطراف المدينة. كان المكان " زرزيحة" يريد أن يأخذ مبارك الي قاع الوادي حيث العفونة ومصب فضلات المستشفى. لكنّه كلّما أحس بالانسحاب من تحته والتّراب يأخذه الى الأسفل ، تماسك وجذب جسمه النّحيل الى جذع الشّجرة . شعر بشيء من الدّفء في هذا اليوم البارد فالطقس اليوم "عين بعين"
كان يراقب "صراريده" ويصلّي على النّبيّ .كانت نعجاته لا تكاد ترفع رؤوسها من على الأرض وهي تبحث عن بعض العشب الأخضر في جُروف حافة الوادي علّها تسدّ به رمقها. فالدّنيا لم تَخرِف بعد، ولعلّ دخول اللّيالي السّود المتزامن مع عيد الثورة يكون فاتحة خير...
لم تكن نعاجه ترفع رؤوسها أو يسمع لها ثغاء وكأنها حريصة أن لا تفوتها قضمة عشب إلا هذه الغشواء تروم الشّرود عن القطيع صائحة في اتجاه المدينة .
فكم من مرة يلحق بها الرّاعي مبارك ملوحا بعصاه ويُرجعها الى القطيع مترفقا متلطفا لاهجا بالصلاة على النّبي. فنعجته هذه مباركة أول من بشّره من القطيع بالاعشار وهي دارّة وحان موعد ولادتها.
لكن نعجته كانت مصرّة أن تأخذ طريقها الى المدينة وكأنها تشتهي بعض العُشيبات الغضّة من الحديقة الخضراء التي تلوح لها من بعيد أمام مقر قصر الولاية هذه البناية الفخيمة رمز سيادة الدولة ، و الادارة المحرك لدواليب المدينة. وتلوح لها نخلات باسقة وبعض أشجار الزّينة اليانعة الاخضرار، والغشواء نعجة صريدة و"بين روحين".
تململ الرّاعي مبارك وحمد ربّه أن رامت نعجته القطيع وبدأت تبحث لها عن شيء تأكله.
وأدخل مبارك يده إلى جيبه فأخرج قطعة من الخبز المبسس. وشرع يقرضه متمتعا بحلاوة السّكر فيه. وهو يسأل الله أن يحمي قطيعه ويحميه من وباء الكورونا . ويطمع أن يقطع الله دابره مع نهاية أيّام الحجر . الذي فرضته الدّولة على المواطنين منذ فجر هذا اليوم.
أحس مبارك بحلاوة الدفء يسري في جسمه وحلاوة المبسس في فيه ،فأخذته عينه وغفا .
كان الحجر الصحي ساري المفعول على المواطنين، الذين لم يغادروا مساكنهم إلا لضرورة قصوى . كانت الشّوارع تكاد تكون خالية من المّارة الا شارع البيئة أجمل شوارع المدينة
حيث ينتظم الاحتفال الرسمي أمام بناية القصر.
فطنت النعجة الغشواء أن مولاها لم يعد يراقبها فأخذت طريقها نحو حدائق القصر لعلّها تنال مرادها. فالعيش في حدائق المدينة رغيد فما بالك بحدائق القصر.
وفطن القطيع بالصريدة تأخذ طريقا غير طريقه فالتحق بها وسار معها حيث تسير ...
كانت الرّيح تهبّ بين الحين والآخر عابثة بأربطة أعناق السّادة ، و اصرت ان تفرّق جمع الحضور بعد صبرهم عليها لأداء تحية العلم ...
و أرجعت الريح الصدى إلى أُذني مبارك فاستيقظ "ملغوطا" مع ايعاز آمر قوّات الأمن "نكّبْ سِلا....حِكْ"، وهبّ واقفا فزعا، وازداد فزعه، واشتد هلعه حيث لم ير قطيعه أمامه
... وجري على غير هُدى متفرسا ممعنا في جميع الإتجهات من حوله ... وجرى نحو أسفل الوادي فتعثر وسقط في "الغْرَمْ" وتلطّخت قشّابيته، فنزعها ورمى بها على غصن قريب منه وهو يسبّ عُمره "الكلبْ" ويسبّ "صراريده الحُرْفْ "... وجري مُحدرا وجري صاعدا ولكن دون جدوى. و اسرع نحو أعلى الوادي، نحوى سور المستشفى وتتاوق انّ نعاجه هناك ، لكن دون فائدة . فراح يسأل نفسه " اتكون قبّلت أم ظهرت"
وتذكّر نعجته الغشوي وردّد "لابد أنها توجهت الى المدينة والقطيع لحق بها" ...
وأضاف "يا لهذا اليوم المشؤوم" .وتدارك "أم يكون اللّصوص ظفروا بالقطيع أثناء نومه " لم يكن يعرف كم نام و"النّوم غلبة" وهو يسهر إلى آخر اللّيل يحرص نعاجه .
ثم أخذته قدماه مهدودا نحو المدينة . فتجاوز مقهي مسك الليل المقفلة ومحطة البنزين عجيل الفارغة. فعجّل في السير والعرق يكسوه وعصاه في يده ...
انتشرت نعجات مبارك في حديقة ساحة القصر و ساحة الفنون المجاورة . ترعى عشب "النّجم" البري وعشب "القازون" المسقي. وهي تشعر بانتشاء وفرحه عارمة ما شعرت به يوما منذ انقطاع فصول الرخاء ...
كان اليوم يومها والعيد عيدها، فراحت تلتهم العشب التهاما على أن تجترّه في ساعات خلودها للراحة .
ولاحظت الغشواء ان الجدب وصل حتي حدائق البلدية فهي لم تجد غير هذا "القازون " وإن كانت تمني نفسها بحديقة غناء تُشبع جوعها ،وتحلم ببعض الورود و الأزهار الفواحة
و الاكليل العطر ، وعلى كل حال ما وجدته أفضل من "جراجيف" وادي سليانة .
و انتشر الفيديو في الفضاء الازرق ، وتناقلته الصفحات الرقمية ومواقع الانترنيت وتتابعت عليه التدونات بين مؤيد ولائم وشاتم كل حسب وجهة نظره ...
كانت لقطات الفيدو فاضحة لغطرسة عون الأمن الذي كان يستشيط غضبا من الرّاعي. مستأسدا بحضور رئيس المدينة ويلكز الراعي بين الحين والحين بيده وبلسانه محملا اياه ونعاجه مسؤلية المروق عن القانون وكسر الحجر وانتهاك مقر السيادة .
في حين يبدو الراعي مستغربا مستسلما راجيا الصفح عن "البكمه" وعيناه تبحثان عن أغنامه التي لم ير لها اثرا ولا يدري أين أختفت؟
كانت حُرقته كبيرة على شياهه لكن حرقته أكبر على الغشواء فهي "بين روحين ".
بقلم نصر العماري
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع