غربة الشمس
لست أتذكّر التاريخ الزمني لذلك اليوم لكني أتذكر كل لحظة ألم و كل جرعة دواء لذلك اليوم. كل أوجاع جسدي رحلت لكن ندوبات روحي لمتلتئم بعد.
كان يوما طويلا أو قصيرا لست أدري. هو يوم لم ينته بالنسبة لي، لكن ماحدث كان حدثا قصيرا عابرا للآخرين. لم يعد يتذكره أحد و لاأظنني ذكّرت به أحدا على الإطلاق.
كان يوما من أيام الشهر المعظم الذي لم أصم فيه يوما واحدا؛ لم أستطع! رغم أني حاولت. لكني أعلم أنّ الله قد سامحني.
أتذكّر أني كنت أستيقظ للسحور مع زوجي و نتسحر في صمت. كنت منهكة من قلة النوم، ألام في ظهري تشلّ حركتي كل ما حاولت.
عشرة أيام تفصلنا عن العيد، كان عليا أن أفعل كل ما تفعله أمي وأختي و كل نساء بلادي و نساء المسلمين. هنا لا يوجد عيد هو فقط تاريخنحاول الإحتفال به بالتقاط الصور. الفرحة كانت صورا هامدة لا حياة فيها مثل الشمس كانت صورة باهتة ترتسم في السماء كل صباح لادفئ فيها و لم أرَ لها أشعة تُغمض لها عيني. شمس كانت نسخة مطابقة للأصل إلاّ أنها ليست شمسنا التي لا تستطيع فتح عينيك فيها.
هي شمس نراها من خلف الزجاج قد تجردت من كل خصالها حتى أنّه علينا تناول مكملات فايتمين "د " لأنها لا تجود به هنا في ولايةمنيسوتا إحدى الولايات المتحدة الأمريكية.
ذلك اليوم كان ابني عمر قد تجاوز سنته الثانيه ببضعة أشهر يلعب و يمرح و يمارس شقاوة الأولاد عليَّ، يرفض رفضا تاما ان انشغل عنهيريدني ان العب معه و ان أحمله و أن أطعمه و أن أغير له حفاظه لكني كنت منهكة.
كنا لوحدنا في البيت الجديد لا يوجد جيران أعرفهم، حي جامد فيه منازل مغلفة لم أر بابا مفتوحا قط لكني كنت على علم بأنّ البيت الكبيرهناك في الزاوية تسكنه عائلة تونسية.
فقط في الغربة تصبح كلمة تونسي ملجأ لك، تحمل كل الحنين و الإنتماء و الأصول و الجذور، لكنهم غرباء أو ربما هم أيضا نسخة طبقالأصل عن الجار في حيّنا في تونس. كنت أعلم انه لو حدث لي أيّ مكروه هم الملجأ الوحيد أو القريب أو الأول لست أدري يكفي أنهم"توانسة" حتى أكتسب مشروعية الاتصال بهم.
فعلا اتصلت بكنتهم (زوجة ابنهم)
- الو أسماء
- أهلا حنان
- هل تعرفين مستشفى قريب من هنا، انا جديدة في المنطقة لا أعرف إلى أين أذهب؟
- نعم يوجد مستشفى استعجالي قريب، ماذا يحدث معك؟
- لا أعلم لكني أنزف ؟؟
- هل حان موعد ولادتك؟
- لا أنا في الشهر الخامس!
- اذا لماذا تنزفين؟ هذا خطر على الجنين
- ساتصل بزوجي الآن شكرا لك.
زوجي يعرف هذه العائلة هو صديق لابنهم، كانو قد استضافونا عندما جئت أميريكا تعرّفت على أمه و أبيه و زوجته و أختيه و أخيه. كنت فرحة جدا ببدأ حياة جديدة و التعرف على أناس جدد، أناس جدد تونسيين، أناس جدد تونسيين جيران لنا.
لم أكن أعلم وقتها أنّ حسن الضيافة و حفاوة الاستقبال لا يعنيان أبداً أنني سأستبدل أهلي و جيراني و أحبتي التي تركتهم بحرقة. كنتأتعرف على كلّ تونسي جديد بلهفة و شراهة علّني أُشبع حنيني و اشتياقي لبلدي علّني أجمّل غربتي علّني أعوض ما نزفته من حنان ومودة.
تأخر زوجي قليلا حتى يأتِ، أصبح النّزيف أكثر غزارة.
ماذا يحدث هل سألد قبل موعد الولادة؟ لست جاهزة بعد لم أنظف المنزل و لم اشترِ أغراض المولود الجديد و عمر لم أشتر له لبس العيد بعد! فقط عشرة أيام أو ربما تسعة أيام تفصلنا عن التكبيرات في التلفزيون ! من سيجهّز حلويات العيد؟ لا توجد محلات لبيع الحلويات التونسيةأو العربية هنا.
اشتد الألم أكثر فأكثر ، اتصل زوجي بمستشفى الولادة أخبرهم بما يحدث معي فطلبوا منه التوجّه حالا لقسم الولادة: الجنين في خطر !
ادخلوني غرفة بيضاء شاحبة شحوب شمس ذلك اليوم و كل يوم أنها شمس الغربة، باردة، جافّة لا رجاء منها.
طلبوا مني تغيير ملابسي و طلبوا مني أن لا أقلق الطبيب قادم.
لست قلقة فالجنين يتحرك حبيبي، هو فقط متسرع ليراني، ربما كان يغار من قبلاتي لأخيه الأكبر عمر.
انت أيضا يا صغيري ساحبك كثيرا و سأسامحك على كل هذا التعب.
وضعت الممرضة الشقراء البدينة ابرة المغذي في شريان يدي. نعم فقد كنت منهكة لا أقوى على الحراك. و أوصلت جسدي بحاسوب كانيحسب عليَّ دقات قلبي و يحدّد كلّ النّسب في جسدي كنت أستمع لدقات قلبي و أحاول التنفّس أعلم أن الولادة ليست سهلة أبداً و يلزمهاجهد كبير .
جاء الطبيب و بدأ بعمل الصونار هذا أمر عادي يحدث دائما قبل إجراءات الولادة.
- سيدتي كيف حالك؟
- بخير شكرا.
- دعينا نر ماذا يحدث معك. متى بدأ النزيف، هل قمت بمجهود مرهق هذه الأيام ؟
و أسئلة اخرى تركت زوجي يجيب عنّي لم اكن أتقن اللغة الانجليزية بعد!
فجأة سكت الطبيب. ثم خاطب الممرضة جهزوا غرفة العمليات في الطابق الثالث.
كنت أتبادل النظرات مع زوجي أنتظر الترجمة. إلاّ أنّ الطبيب فجّر الصمت:
- لا يوجد نبض قلب للجنين، على الأرجح الجنين قد مات!
لم أنتظر ترجمة زوجي فقط فهمت ماقاله الطبيب و صرخت لا!لا ! اإنّه يتحرك و يركلني أنت مخطئ و طلبت من زوجي الذي كان يحمل ابنيعمر بين يديه ان يترجم للطبيب ما قلت.
كان الجنين يتحرك بداخلي كنت أشعر به في أحشائي من المؤكّد ان الطبيب مخطئ.
رنّ هاتف زوجي و خرج من الغرفة انه صديقه، جارنا قد أخبرته زوجته بمكالمتي، فجاء ليأخذ ابني عمر إلى منزلهم لأنه صغير يحتاج رعايةلن يجدها في المستشفى.
فرحت جدا، فعلا انه الجار التونسي الأصيل حتى لو كان قد ولد هنا في امريكا و ترعرع في أحضان المهجر يبقى متعلقا بما تربى عليه منقيم حتى لو كان بعيدا عن بلد أمّه لان أمّه كانت هي البلد، هي العادات و التقاليد، هي الانتماء و الجذور التي تطول بطول المسافات و تمتدبامتداد الأعمار .
فرحت لأنها أيضا فرصة كي نُفعّل جرس الجيرة و يصير الشارع الذي يجمعنا يحمّل خطواتنا بالزيارات و المعايدات انه العيد بعد بضعة أيام.
عاد زوجي ليخبرني أنني فقدت صغيري، استنكرت كل ماقاله لي فالجنين هنا في أحشائي يشاكسني بضربات خفيفة، اصريت علىتصديق ما أشعر به فأخذوني إلى الطابق الثالث و أجروا لي فحوصات جديدة و تحاليل أخرى ، جاءت اليّ ممرضات أخريات أجمل منالأولى تفحصن كامل جسمي فقد كنت منهكة.
كان زوجي يمسك يبدي و نحن ننتظر النتائج ربما تحمل دليل خطأ الطبيب. كان ينظر اليّ لا حول له و لا قوة لا يعرف هل يصدقني ام يصدّق الطبيب الأمريكي. هذه أمريكا أبداً لن يخطئوا التشخيص كما يحدث في تونس.
لم أكن أعرف أنّ زوجي أمريكي المشاعر قبل اليوم، كيف تصدقهم؟ كيف تسلم لهم ؟كيف تتبعهم؟ انهم غرباء! ربّمى هم الوطن و نحنالغرباء هل صار زوجي هو أيضا نسخة مطابقة للأصل نسخة أمريكية متجمدة.
لازلت أشعر بنبض صغيري و هو يتخبط في أحشائي عندما أكدت الفحوصات ان الجنين ميت منذ شهر و انني أعاني من تسممات داخلجسمي لذلك كنت منهكة جدا جدا في الأسابيع الأخيرة و كنت خائرة القوى.
ادخلوني غرفة العمليات، أما قلبي فأسرع يتشبث بعمر و يودع زوجي كانت حياتي في خطر، كان جنيني يرفض الذهاب من دوني كان لا بدمن عملية قيصرية لاخراجه من أحشائي لست أدري كم من الدمع ذرفت و كم من الدم نزفت لكنّ دمعي و دمي لم يكفا ابدا.
-أمان رد بالك على عمر (أرجوك اِعتن بعمر) آخر كلماتي عندما ودّعت زوجي لأدخل غرفة العمليات لأودع جنيني أو ربما نرحل معا.
توقفت اللحظة وقتها و تلاشت كل النسخ المحيطة بي و انتهت الحياة. لا أعلم ان كانت قد انتهت في داخلي أن من حولي.
أمي أين أنتِ ؟ أمي صغيرتك تحتظر! هل حقا سأرحل من دون أن أراك؟ كنت أموت كل مرة أودعك فيها و أعود الى أمريكا. كيف لي انأموت دون ان أودعك أمي؟
أمي لا تحزني ان مت سأترك لك عمر، فزوجة أبيه لن تحبه مثلك أخبريه ان أخاه الصغير يحتاجني أكثر منه.
أمي كيف ستستقبلين الخبر ؟ أنت التي ترفضين مرافقتي إلى المطار لأنه يصعب عليك توديعي و فراقي.
لا اظنك بمقدورك زيارة قبري أمي ربما أُدفن هنا في هذا البلد و لن يزورني أحد فليس لديّ أحد و لا أعتقد ان الزوجة الجديدة سترضىبذلك، لن تحبني أبداً .
فتحت عيني لم أجد الغرفة البيضاء و لا أصوات المعدات الطبية من حولي، انها غرفة أخرى، غرفة فيها نافذة تطلّ على الشمس نعم انها تلكالشمس المزيفة مجددا.
لا تزال الابرة في شريان يدي تؤلمني أكثر و جسمي يؤلمني أكثر و الدمعة متشبثة بطرف عيني و أنا لازلت منهكة .
وجدت زوجي يبكي بجانبي - انها النسخة الاصلية - كان منهارا مكلوما ارتسمت اللوعة على وجهه بكل وضوح.
- الفايدة فيك أنت الحمدالله الي قمت لاباس (أنت اهم شي الحمد لله على سلامتك)
- هل كان بنتا ام ولدا؟
- لا نعلم بعد فقد كان متحللا.
- اين عمر؟
- لايزال عند الجيران
حتى الجيران نسوا ذلك اليوم و زوجي لا يريد تذكره، أنا فقط من لم ينس ذلك اليوم الذي مرّت عليه عشر سنوات و بعض أشهر و أنجبت بعدذلك الجنين أحمد و مالك و صرت أم الأولاد التي تربطهم بالبلاد لا أظنهم سيكونون كأولاد تونس لكنني متأكدة من حبهم لها.
لم أستطع ظبط حبي و حنيني و تعلقي بتونس فوجدته قد نبت و أزهر و أثمر فيهم رغم صغر سنهم.
و لا تزال أمي ترفض مرافقتي إلى المطار كل ما دقّ موعد الفراق لا تودعني.
يوم من أيام الغربة
حنان بوشريط
ولاية منيسوتا من الولايات المتحدة الامريكية
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع