تدور الرحى...ومع كل دورة تتشكّل ذكرى؛وريقة تنبت من جديد لتهمي في القاع وأنت متربعة على عرش الذاكرة.وما الحياة إلاّ رحى تسير ولا تقف
.وريقة.
ذات يوم ،لفظ فيه الربيع آخر أنفاسه المعبقة بسحر الطبيعة فبدا كوليد غالبه النعاس ،تمطى وتثاءب ثم أسدل جفونه لنوم هادئ حالم.. غطّت السّماء بنات البحر يسقن بقايا أسراب الطيور المهاجرة فحجبن الشّمس وقد بدأت تكشر عن أنيابها لتشرّع سياطا من النيلة الزّرقاء الحارقة إيذانا بمقدم صيف هاجر ،ضجّ صدري وأحسست بالضّيق من أعمال متكرّرة مضنية وما يتبعها من سامة وتشتّت حدّ الضّجر فلم أشعر إلّا بتلك الطّريق تهبني أقداما للمسير باتجاه ذاك المكان الذي طالما أسرني ولفني بالسكينة ...
متدثرا بفيء تلك الشجرة ودفئها،حططت الرحال،أسندت ظهري المنهك لجذع قد تآكل لحاؤه وتشقّق بمفعول الزّمن فبدا كمعلم أثري انتصب شاهدا على تاريخ عائلة نحتت مسارا نضاليا مع أديم الأرض بأظافر من زبر الحديد ،أنخت راحلة العمر وطفقت أنسج من خيوط خيالي بساطا من الذكريات امتطيته وجنحت في فضاء رحب بلا حدود ولا قيود ...سافرت في مسارب تحفها خيالات مبطنة بالرضا والاطمئنان.. إنني ألغ ماضيّ،أحتسيه حسوة حسوة ..تهت ..رحلت... بعييييدا بعيييدا حتى غبت عن الوجود إنني ميت مأسور فلا عساني أكون ..موتورا ..في الأثناء قطعت عليّ صمتي المفعم بالأحلام ومزقت طقوسي الاحتفالية وريقة..وريقة، غادرت موطنها كما يغادر السر المكنون صدرا مطبقا بالخطايا فتلاعبت بها نسمات عليلة، تهاوت وتردّت وفي طريقها لامست شعري تدحرجت وداعبت وجنتيّ ..ثم التصقت. مددت يدا مرتعشة وجلة في حركة لاإرادية لأزيل حرجا سببته لي لكنها بدت وكأنها تهمس في أذني بما يشبه السحر؛وشوشة شجية كما كانت أمي تفعل لما تروي لي حكايات صغيرة بحجم أحلامي..أحسست بحرارة مفاجئة تسري في وجهي وبشيء من البرودة يدبّ في أطرافي .وما لبثت ان افتر ثغري عن ابتسامة طفولية ممزوجة طربا وحنينا ...
كان ذلك وانأ طفل أحلم بملاحقة الفراش وغزو الفضاء في سماء رحبة ألامس فيها الشمس و أسامر وجه القمر كما في أبطال القصص التي سكنتني حد الهوس ...
متبخترة،لمحت دجاجات أمي تقوق باتجاه عش بإحدى الشعاب المجاورة لا يعلم إحداثياته أحد سواي فعنّت لي فكرة لمعت في عيني شيطان كنّ داخل طفل بريء وغاض ..نعم سأختصّ نفسي بقصص آسرة وكنش صغير أدون فيه رحلة أبطالي وأنا أسافر معهم تحت ظل الشجرة ..وما أغزر فيئهم سأروي للأوراق والأغصان حكايات ولا ككل الحكايات..ولكن مهلا ماذا لو كشف سري ؟ألم تعلمني أمي تلك التي تسابق الشمس وتوقف الغيوم لتركبها من أجلي أن من يسرق بيضة يأتي عليه يوم يسرق فيه عجلا؟ وكيف سترتفع لي هامة أمامها؟لكن معبود الرياح لا يترك لي طوقا للنجاة ..لا يعدو أن يكون الأمر مغامرة محمودة العواقب لا سيما وأنني متفوق في دراستي وسأبتاع قصصا لأزداد تفوقا وأرفع رأس تلك الفلاحة المكافحة بين أهلها وجاراتها اللاتي يخدشن كبرياءها مفاخرة بما يغدقه عليهن أزواجهن من حلي ومتاع الدنيا.كما إنها ستكون فرصة أختطفها من براثن الظروف القاسية لأتطاوس بين أقراني الأثرياء الذين امتنعوا عن إعارتي قصصهم وقد بدت لي حلما بعيد المنال ها إنني سأقتص من الظروف للحرمان ... المغامرة مبررة وخيرها أوفر حظا من شرها ...قضي الأمر وليكن ما يكون ...باستخفاف غير معهود لدي ،هززت راسي وكأنني أطرد هاتفا يشدني إلى الوراء ثم اتجهت رأسا إلى هدفي المنشود...وفي سلة بالية من السعف المتآكل، اكتنزت البيض وسابقت الريح باتجاه دكان العم حفيظ ...في الطريق، كان لا يزال الصراع يعتمل في صدري كقارب في يم سحيق تتقاذفه أمواج عاتية دون دفة او شراع وقد وقف ربانه على الجؤجئ ،دون بوصلة، يبحث له عن خلاص ، تراءى لي أبي وهو يخز وشيجاء قلبي الغض ورجاحة عقل الكبار عندي والتي كان يتباهى بها فقد كان كلما تحدث عني أطنب حتى غار مني أخي الأكبر وأخواتي البنات ،تردد صدى تلك الكلمات بصوت رخيم ،في هدوئه المعتاد:
_ "كيف خولت لك نفسك إتيان صنيع يغضب الله يا ولدي؟ وجب عليك الرضا بالنزر القليل في انتظار خير عميم،الأمانة الأمانة يا ولدي ،إياك أن ترتد ،إنما يعرف الرجال وقت الشدائد والحليم من غالب هوى النفس فاستقامت له الدنيا وأزلفت له الجنة "
ياااه ما هذا الصراع ...أحسني مصارعا اعزل يواجه سباعا ضارية في الفلاة..لكن المغامرة لا تزال تستهويني وقد تشربتها من مطالعاتي وهزت كياني حتى صرت أحلم بدور من أدوار المغامرين الذين يصعدون إلى حتفهم باسلين غير حافلين بأشواك الطريق وهزيم الرعد فلا ترهبهم غياهب الحياة فالعبرة بالخواتيم وطلبي امن محمود ..داخل صدري الصغير، وبعد صراع مرير صدر القرار النهائي وحسم الأمر دون رجعة ابتعت العم حفيظ كنزي بدراهم معدودات بعد أن بادلني ابتسامة صفراوية وكأنه كشف سري وخابني فعابني ..ما يهمني سأحتضن أبطالي وأحلم ...قضيت وطري وعدت داسا بين طيات ثيابي كنزي ..دفعت المزلاج الخشبي ودلفت كمذعور لسعته إحدى هوام الصحراء.فوجئت بأمي تقتادني الى الشجرة أين كانت تدس خرقة بالية كانت مدفونة بين الأديم والجذور لتسكب بين راحتيّ سيلا من الدراهم هامسة
-"خذ يا ولدي لقد ادخرتها من مآقي العيون بين الأهداب والجفون هي لك اذهب سافر مع أبطالك فقد أزعجتنا بأحلامك ليلا فلا تنتظر من أمك إلا خيرا فأنت قطعة من القلب وبسمة ولدت بين ثنايا روح متعبة تتوق لإسعاد فلذات أكبادها وتتشوف لرؤيتهم في صورة محلاة بإطار من ذهب خالص لا يصدأ بمرور الزمن ،مهما تداعت الظنون وازداد الوهن ...
أسقط في يدي ،انتحيت مكانا قصيا ،بكيت، بكيت حتى نمت لأفيق على وقع صرخة لبطل من أبطالي وقد تردى....
__فوزي النجار__
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع