البلعوط - منير الجابري
البلعوط
لقد دأبت مهى على احتساء قهوة الصباح في الشرفة المطلة على الحديقة. تجلس وتضع أمامها الفنجان على طاولة صغيرة. ثم ترفع بصرها نحو حركة الورد الذي يداعب النسيم. فتتدحرج قطرات الندى عاكسة أشعة الشمس حتى ترتوي منها العصافير ثم تسبح في فضاء الحديقة. لتعزف سمفونية استقبال فصل الربيع.
مسكت مهى الفنجان بين أصابعها و همت لترتشف إلا أنها ترددت حين شاهدت كتيب ملقى فوق الكرسي بجانبها جذبته و أطالت النظر في العنوان ثم بدأت تقلب صفحاته توقفت عند بعض الجمل تأملتها ثم قالت و هي تحاور نفسها :
- " انها كلمات و جملا بسيطة. تفتقد الى تلك اللهفة التي كانت تعتريني في النصوص السابقة."
سكنها الشك في نجاح الفيلم لان قصته بلا جاذبية و غاب فيها عنصر التشويق. و بدى لها الدور الذي أوكل لها سخيفا جدّا. الا أنها وجدت به جملة بسيطة بقيت تتفرس فيها.
حركت فيما خيوط الماضي شعرت بحنين جارف التي تلك السنوات التي مرت بها. جعلتها تستمتع صدى أنيق الذكريات. رغم ما فيها من ألم و حزن و صبر و اصرارها على نحت مستقبل أنضل بدأت تسترجع أيام الصبى و الشباب.حين كانت طفلة صغيرة مكتنزة الجسم بيضاء البشرة لها فم صغير.و عيناها تلمع. أما شعرها فهو أسود يتدلى على جبينها كالحلقات.تعيش مع عائلتها وسط قرية متناثرة المنازل.تذهب كل صباح مسافة طويلة حتى تصل الى المدرسة. رغم خروجها مبكرا. لكنها تصل متأخرة الى الفصل. فهي لا تقدر على المشي بسرعة كبقيّة الأطفال. فيغضب عليها المعلم مما يثير سخرية اصدقائها. فيتلعثم لسانها و ترتعد ركبتاها و تخجل كثيرا.
كانت تقضي كامل اليوم بالمدرسة و تعود بعد انتهاء الدروس. و من حين لأخر تعترضها جدتها خاصة عندما يكون الطقس ممطرا حتى ترافقها أثناء عودتها لأن والدتها لا تجد فرصة حتى تهتم بها . فهي تستيقظ باكرا و تعد الطعام ثم تنطلق في سباق مع الزمن تسرع نحو الحقول للعمل و لا تعود الا عند غياب الشمس منهكة من شدة التعب. أما والدها فقد توفي منذ سنوات. و كان سبب رحيله عن الحياة، يعود الى خلافه مع شقيقه الصغير الذي استولى بطرق ملتوية على جميع أملاك والدهما بل لم يكتف بذلك تحرش بابنته الكبرى ، الذي ترك لها أثرا نفسيا عميقا مما أثر على حياتها .
أمام هاته الأعمال الدنيئة التي قام بها شقيقه. رحل بعائلته الى القرية حتى ينقذ عائلته من براثن أخيه. لكنه لم يعمر طويلا، ألمت به أزمة حادة نتيجة الظلم الذي تعرض له بعد وفاته، التحقت أمه بعائلته لان زوجة أخيه الصغير أطردتها من منزلها بعد أن تحيلا عليها وتنازلت عن حصتها من الميراث لأنها لا تحسن القراءة و الكتابة رغم تقدمها في السن، أخرجتها من المنزل ليلا حتى لا يشاعدها الجيران. قضت ليلتها تلك في الشارع و في الغد التحقت بعائلة ابنها ( المرحوم ) في القرية، و تفاجأت بالحفاوة و الترحاب من كافة أفراد أسرته. بل أصبحت لها شأن عظيم و دور هام داخل العائلة. و كان لها الاثر البالغ لدى أحفادها. خاصة مهي التي تعلقت بها كثيرا. كانت تعود في المساء و هي ترتجف من شدة الغضب فقد ملت من سخرية أقرانها في المدرسة. تعترضها الى ساحة المنزل و تحتضنها و قد غلب عليها البكاء. تضمها الى صدرها و تقول لها : "
- لا تنشغلي بما يقولون صغيرتي، و لا تشعري بأي حرج ، كلكم زهور و أنت أجملهم.
رغم مواساة الجدّة لمهي الا أنها لم تعد لديها رغبة في مواصلة الدراسة، غادرت مقاعدها مكرهة رغم معارضة جدتها لها.
مرت السنة تلوى السنة، بدأت مهى تتحسس طريقها و تدرك دور جدتها في حياتها التي لا تبخل عليها بالنصيحة. فقد تعلمت اسرار الحياة بفظلها .
أصبحت مهوسة باصلاح الملابس مع جدتها. فهي كانت تملك آلة خياطة قديمة و تمتهن رتق و اصلاح ملابس سكان القرية. حتى تقدم شيئا لعائلة ابنها. كانت مهى تقتنض الفرص. كلما غادرت جدتها غرفتها لكي تتجادل مع نساء القرية حول رتق الثياب و كيفية اصلاحها. تجمع ما تلقي به جدتها من بقايا قطع صغيرة من القماش و تخيط منها ملابس لدميتها مختلفة الاشكال و الالوان. وأحيانا تصلح ثياب أخيها الصغير.فهي كانت حريصة على متابعة جدتها أثناء عملها على آلة الخياطة. فقد كان صوتها كنقرات موسيقى. كل شئ داخل الغرفة كان يهتز أمام عزفه آلة الخياطة، حتى أوراق شجرة التوت أمام المنزل يحركها النسيم في تماه مع آلة الخياطة، كانت مهى تحب اللعب مع أطفال الجيران يتحلقون حولها , تمسك بيدها قلم رصاص و تنقر به على أي جماد يعترض سبيلها ثم تخاطبهم : "
- هاته النقرات كنقرات البيانو الذي سمعته منه الصباح في المذياع الذي تملكه جدتي، و كنت دائما اغتنم فرصة خلودها الى النوم، و اتابع تلك بآلة الخياطة لعمري انه أجمل شيء قمت به لانه يتطلب دقة متناهية و تناغم بين السمع و حركة القدمين لتحريك آلة الخياطة . وقمت بهذه الحركات اثناء صنع بعض فساتين دميتي , كما لا أنسى قطتي فهي كانت تهتز لتلك النقرات و تحرك ذيلها ."
مرت السنوات مسرعة , كبرت مهى كما كبر حلمها . و تمسكت أكثر بجدتها , حتى أتقنت فن الخياطة و التطريز فقد حرصت جدتها على تكوينها . تكوينا جيدا .و ظلت دوما تشجعها بل أصبحت تفتخر بها أمام نسوة القرية. وهذا ما كانت جدتها تطمح إليه , حتى لا تخسر مستقبلها لا سيما و قد تركت المدرسة في سن مبكرة . فقد أعجبت بذكائها و حماسها . و دائما تشبهها بجدها الذي توفي من زمان في تذكره دائما في جلساتها خاصة في المسامرات الليلية في ليالي الصيف الجميلة , حين تلتقى بجيرانها . تقول عنه :"
- كان تاجرا معروفا , لحيته بيضاء , ف عينيه ذكاء , اشتهر بطيبة قلبه , فقد عشت معه في أرغد العيش , كان يحبني و من حين لآخر يهمس لي و يقول
أنت يجتمع فيك الذكاء و الحياء يا من لك خال أسود في خدك الأيمن زادك جمالا و دلالا ."
يرن هاتف مهى بغتة . ردت ثم ركبت سيارتها و انطلقت بسرعة جنونية الا أنها سرعان ما خفضت . نظرا لازدحام حركة المرور , فتحت مذياع السيارة , حتى تكسر ضجيج السيارات . كان يمر عبر الأثير في تلك اللحظة برنامج اسمه (صدى المدن و القرى) يحكى عن قريتها , كانت مفاجأة سارة , فهي القرية التي قضت فيها الصبي و الشباب . أعادها الى تلك الربوع و المسالك و الاثار التي توحي بأنها مهد الحضارات العابرة . حلقت بها نشوة الذكريات الى ذلك اليوم الذي غير مجرى التاريخ في حياتها . حين أقبل عليها شاب من أهل القرية بينما هي كانت منشغلة بآلة الخياطة , و اقترح عليها المشاركة في مسابقة تصميم الأزياء , التي ستقام باحدى المدن الكبرى الساحلية . تنظمها شركة عالمية تهتم بفن الموضة. لأنه يشتغل حارسا لدى احدى فروعها . ترددت , تسالت حاورت نفسها ثم اسرعت الى جدتها حتى تستانس برأيها . أجابتها على الفور : "
- اسرعي ثم أسرعي حتى تصلي في الوقت المناسب . قطعت كلامها و قالت :
- لا أملاك الأقمشة و ادوات الزينة لهكذا مسابقات . فهي لها طقوسها الخاصة.
- لا تخافي انهضي و لا تنزعجي , أنت لك كفاءة عالية في هذا الميدان .
شرعت مهى على الفور في الرسم مستعملة قلم الرصاص , فهي لا تملك أقلام ملونة عملت بحماسة وجد و فكرت في تصميم يهتم بالنساء البدينات , حتى تلقى بتلك العادات جانبا , التي تولي الجسد الرشيق و النحيف فساتين الموضة .
و المرأة المكتنزة غائبة تماما . لدى مصممي الموضة . بل لا يوجد بهن اهتمام بدأت مهى تربط الليل بالنهار , علها تنهي عملها في الوقت المحدد , و تتمكن من انجاز فساتينها .
انتشر الخبر في أرجاء القرية , فأقبل كل أهل القرية لتشجيعها ومساندتها . و قدموا يد العون . كل واحد على طريقته هناك من النسوة من تملك بعض الأقمشة النادرة , و هناك من قدم لها بعض الملاليم .
غمرتها سعادة لا توصف لهبة جيرانها لنجدتها , و سرها ذلك كثيرا كما فرحت جدتها بدور الجيران في هذا الامتحان , فأصبحت مهى همزة الوصل بين سكان القرية . تبعث الحياة و الفرح في قلوبهم بل تزرع فيهم الأمل .
مرت الأيام رويدا و أقبل اليوم الحاسم . ركبت مهى مع جدتها في شاحنة قديمة و انطلقوا مع ساعات الفجر الأولى . الا أن الشاحنة تعطلت في الاوحال , فالتحق بهم رجال القرية و قاموا بدفعها , حتى وصلت إلى الطريق المعبدة , تطلخوا بالأوحال ,لكنهم لم يغضبوا بل كان مصدر فرحهم , حتى تصل مهى في الوقت المناسب.
بعد جهد و عناء السفر, وصلت مهى الى مكان المسابقة , و ما ان جلست على كرسي حتى تسترجع أنفاسها سمعت صوتا ينادي :
- مهى جاء دورك .
لبست بسرعة فستانها و مشت بخطى مرتبكة على السجاد الأحمر و هي لا تتقن السير عليه. اصيبت لجنة التحكيم بالدهشة استغربوا الأمر. فهي أوّل مرة تمر أمامهم عارضة أزياء بهذا الشكل عرض، غريب، عرض جديد. ابتكار غير مسبوق. لم يفكر فيه أحمد من قبل. أن تصبح السيدة البدينة في مجلات الموضة و على السجاد الأحمر.و تتصالح مع جسدها و لا تشعر بحرج في المناسبات السعيدة أو حضور أعياد الميلاد. بل تجعل منها نجمة و محط انظار الجميع، يفضل فستانها لما أضفاه عيها من جمال و رونق. تقدمت مهى خطوتين الى الامام ثم نظرت الى ما حولها وجدت عددا غفيرا من الناس، تتقدمهم لجنة التحكم، ثم أدارت بصرها الى الجدران، فرأت صورا تسلب العقل. تبرز مفاتن المرأة و جمالها.
ناهيك عن الأخطاء التي ارتكبتها حين أسرعت الخطى و بقيت متحفزة، خائفة من ردة فعل الحاضرين. و خاصة لجنة التحكيم. فهي لم تتوقع أن يحمل لها ذلك اليوم المفاجأة الكبرى. اذ بينما هي مرتبكة و متوترة.
بدأ الجمهور بالتصفيق و قام كامل اعضاء لجنة التحكيم حتى يعبروا عن فرحتهم بفكرتها التي خرجت على السائد و غامرت بفكرة جديدة. لم يأت بها أحدا من قبل. فهي قد فتحت الباب على مصراعيه لجميع النساء. على حدّ السواء. كانت رشيقة أو مكتنزة، حتى تنعم بفن الموضة و تواكب آخر صيحاتها على مدار السنة. قد استغلت مهى في صنع ثوبها. أنواعا من الأقمشة و الاكسيسوارات، نابعة من تراث القرية. متناسقة الآلوان ممّا أبهر لجنة التحكيم بحسن اختيارها. فصوّتوا لها بالاجماع لتفوز بالجائزة الاولى ، احتراما و تقدير لمجهودها.
لم تتمالك نفسها نزلت دموعها. أسرعت اليها جدّتها قبلتها طويلا أمام الحاضرين ثم تفاعلت مع الموسيقى الهادئة التي يتردد صداها و أقبل البلعوط ( سائق الشاحنة) و شاركهم الرقص إلا أن الجدة دفعته بعصاها خارج السجاد الأحمر. أطلقوا على عرضها ( مجموعة صاحبة الفكرة المجنونة) .
مسكها، منظم الحفل و دعاها مع جدتها لتناول الغداء. انهمكت في الأكل بينما جدتها تهمس الى البلعوط و توصية بحسن المعاملة مع الاطباق المنتشرة على الطاولة. فقد اسالت لعابه لأنه لم يأكل شيئا منذ فجر ذلك اليوم، و مالبثت أن جاء النادل و في أثره بضعة رجال لهم هيبة و اتجهوا الى طاولة مهى. حفق قلبها و ازداد اضطرابا. أدارت نظرها الى جدتها لكنها لم تهتم لامرها فهي منشغلة بالبلعوط .سمعت النادل يقول : "انها صاحبة الفكرة المجنونة .
قام الرجال بتحيتها ثم عرضوا عليها أن تمضي معهم عقود الانتاج فساتينها . و كانت عروض ذات مبالغ مالية خيالية، لانهم يملكون أفضل مدارس و شركات الموضة، على المستوى العالمي تركت جدتها البلعوط و هو يتسكع من طبق الى طبق و يتلذذ بالاكل. و جذبت العقود من يد مهى حتى تطلع على فحواها عاد النادل مجددا و معه سيدة فائقة الجمال. رحبت بها مهى و خيل لها أنها صاحبة مدرسة للموضى. إلا أنها طبت شيئا صدم مهى و بقيت في صمت و هي تنظر اليها. استأتنست الجدة باقتراح السيدة.و قطعت صمت مهى حتى تقبل العرض قالت مهى : لا أقبل العرض لاني لا أفهم شيئا في هذا المجال ردت عليها السيدة دورك ثانوي و لا يتجاوز الخمس دقائق و أنت مطالبة بجملة أو جملتين في المشهد فقط قطعت الجدة كلامها و قالت : ستقبل مهى هذا الدور.
الكاتب و القاص
منير الجابري
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع