كتابات عبر مرايا الذاكرة في " قوافل بلا هوادج "
للدكتور صدام فهد الأسدي
بقلم : توفيق الشيخ حسين
كتابات نقدية تنبع من الضمير وتتألق من الحقيقة وتحط بأجنحتها على ورق الذاكرة .. فالإنسان في عالم التجربة ذلك الموجود الوحيد الذي ينحصر وجوده في حريته .. يقول الدكتور عزالدين المناصرة "
" النص هو الحكم الأول والأخير , فهو شهادة الشاعر ومرجع الناقد " ..
عن مكتب الجواهري " كلية التربية - جامعة البصرة " صدر للدكتور صدام فهد الأسدي كتابه المعنون " قوافل بلا هوادج " 2010 ضم مجموعة من الدراسات لتسعة عشر شاعرا ً من العراق ...
الشاعر بلند الحيدري يبحث عن فردوسه المفقود .. بدأ رحلة التشرد مع حسين مردان وعصفت به هموم الغربة في لبنان أربعة عشر عاما ً حتى أصبحت حياته قصة حوّ لها الأديب الراحل جبرا الى رواية عنوانها " صيادون في شارع ضيق " ..شيـّد مجده الشعري بثمان مجموعات شعرية وأصبح واحدا ً من بين المفجرين للثورة ضد القصيدة التقليدية حتى أن السياب اعد مجموعته الشعرية " خفقة الطين " بداية الحركة وسماها
( فاتحة عهد جديد للشعر العراقي ) .. حيث يؤكد الدكتور صدام بأن الشاعر بلند الحيدري هو شاعر رومانسي وسريالي وواقعي وفوضوي ولم يقف في طريق مسدود .. ظل وحيدا ً يكفن سعادته الغائبة بالظلام ووجد الموت خلاصا ً وأصبحت المدينة سرا ً لضياعه وسرا ً لنجاح موهبته وبالرغم من هذا كله ظل نجما ً عراقيا ً تغرد قصائده في سماوات الإبداع ..
الشاعر حسين مردان المارد الجبار الملتف بثياب الضباب والذي قال عن نفسه " أنا القديس الفاجر " أنا ضد العالم وضد الحياة وضد كل شيء ..
يكرر الدكتور صدام قول الكاتبة الفرنسية أورين " انه بودلير العراق "
حقا ً بلحنه الأسود ومرجوحته الصارخة وقصائده العارية .. أنه شيخ المشردين من الهندية الى قمة الجبل .. وقد رحل الشاعر حسين مردان ولم يأخذ من وطنه سوى الحرمان وقد أعطى لوطنه الشعر والنثر الخالدين وقد كان يحلم ولم يحقق له الوطن حلمه ...
يقتطف الدكتور صدام من بستان الشاعرة نازك الملائكة زهرة واحدة يسميها " الظمأ " ويخترق الدلائل الفكرية والرمزية , وهي ترتصف في دلالة الحرمان في قصيدة " شجرة القمر " .. وهي تعود مع القمر تطرق الشباك عبر الصخر والأشواك ولكن الأبواب ترفضها ويضيع الأمل .. إنها تتفنن بقتال الظمأ الذي لا مهرب عنه ومنه .. وهذا الظمأ مات في داخلها عندما تمنت أن تدفن في العراق ولكنها عطرت مصر بجثمانها وأرسلت للعراق روحها أجنحة ترفرف في سماء الحرية ...
في قراءة مجموعة الشاعر عباس باني المالكي " التسول في حضرة الملك" يغوص الدكتور الأسدي في مهيمنات الشعر خارج الدائرة المفرغة منطلقا ً من قضية هامة عند الشاعر المالكي وهي الرماد .. فما الذي يوحيه الرماد من انطفاء موقد غير مشتعل خفتت فيه آخر جمرة ومات ضوءه نهائيا ً أليس هذا من تداعيات اليأس وأحتراق الذاكرة في متاهات الأشياء .. فما زال يتعلق بالرماد قضية وهو يعلم بعدم وجود نافخ للنار المطفئة .. وأخيرا ً رسم له أجنحة وهذا يدل على إن الشاعر المالكي يؤسس لمفردته قضية شعرية تحتاج الى فكر وتأمل وهو يبحث عن قارئ ومتلق يفهمه قبل أن يضع له الهوامش ...
لمحات خاطفة تنبض من قلب وقلم الدكتور الأسدي ويتوقف معتذرا ً من القراء ومعترفا ً بأنه لم ينصف الشاعر الكبير يحيى السماوي أبدا ً مهما طوى السطور ورتب الأفكار فما عساه أن يفعل مع قوافل مشحونة بالرؤى وبالتحديد الكتابة عن فنه الرفيع فلعله يصيد من غزلانه الجامحة واحدة ومن طيوره المحلقة ريشة ومن سحابات أمطاره دفقة .. انه شاعر يخيط من صبره سفينة يبحر بها الى عوالم الناس كالضوء لا يتجسد في الأشياء يتلألأ فيها بصوفية عذبة يغامر في كلماته ليقنع الأحبة ويهدأ من غضبهم بضرب من دخان الفجيعة وأنات الحياة اليومية .. وفي مسك الختام يقف عاجزا ً في كسب الرهان فأن الشاعر يحيى السماوي وصل الى حد حقق فيه أكبر مستوى من النضج الشعري يجنبه التهافت الذي يقع فيه من يكتبون الشعر سدى , وكم يؤلمه من يكتب عنه ولا يجيد كشف قوافله ويقول كم من أناس تظلم الشعر حين تكتبه ولا تجيده وكم من نقاد تنقد الشاعر ولا تعطيه حقه ...
يفجر نبعا ً في خوارق الصمت ويخترق دائرة الخوف من تبعيات سرديات مرتجلة في مصاف شعري منثور يدل على قدرة وفن كبيرين ..في قراءة نقدية لديوان " تضاريس ابي محسد " للشاعر سامي السعد , يؤكد الدكتور الأسدي لوعة وغربة الشاعر الحقيقية في عالم غير عالمه .. لا يعرف متى يجد الإنسان .. وما زال صراخه وجعا ً بصريا ً لا طائل بعده وقبله .. في داخل الوطن غربة كتابة وغربة بيت وغربة حقوق وغربة وفاء .. وينقلنا الى رؤى جديدة في فن النثر تتقاسمها الصور وتتفرد بها الشخوص
الواقعية ...
من جسد ذابل ضعيف يتحمل أكثر من طاقته الى روح تنحتها الأوجاع وتزحف فيها الآلام .. يقدم الشاعر شاكر العاشور هياكله الشعرية المصنوعة من الأوجاع في ديوانه الشعري " تلاوة ريما للشمس " ليصنع منها الدكتور صدام سفينة صغيرة متواضعة في حمل همه ضمن تشظيات التعب والقلق وكأن الألم يمسكه والأحزان تقطعه أربا ً ..أن العاشور صاحب خبرة وحرفية وناضج التجربة في عمله الشعري وقصائده تستحق التأمل والقراءة ...
تبدأ رحلة الدكتور صدام مع الشاعر ماجد الحسن ومجموعته الشعرية " لا أريد صعودا ً " مع شعرية خصبة ونتاج متألق يحتاج إلى فكر ومهندس نقد , جاءت نصوصه ضمن أيدلوجيا خطط لها وتفلسف فيها بعمق .. وهو يقف بصف الرواد الأوائل فما حلمه الا جنازة محمولة في الغبار وذكريات مسحوقة الأوصال مكسرة بين أجنحة الجليد .. انه شاعر منتمي لأرضه وحب وطنه وأبيه وأمه وميسان الحبيبة مرفأ طفولته .. وهو مؤمن بأن العراق مدينة فاضلة يتطلع اليها البشر مستقبلا ً وثمة من ينتظره في سفر الزمن ...
من هنا أخترق الدكتور الأسدي عواصف الشاعر رعد زامل شاعرا ً وناقدا في مجموعته الشعرية " أنقذوا أسماكنا من الغرق " .. في ميسان تنفلق القدرات وترسم القوافي محطات ابداعها .. طاويا ً جراحات قلب أتعبه الهم والغم والحيرة ولكن لهاثه يحمل روحا ً صامدة أمام الريح والعواصف .. ويضيف الدكتور صدام أن في شعره أمطاراً ربيعية غرقت في أفنان خريف معتم ويبست في شتاء قارص وسافرت في صيف لا غيمة تصدق فيه مطر كذاب وغيوم جهام وبيادر جافة وأنهار ظمأى وسفر محترق ..
إن انتشار ظاهرة التكرار بكثافة واستجابة الشاعر في أداء معانيه يدل على قدرة عالية للتعبير عن المعاني وأدائها ..ولأنه يفجر المعاني بدلالات شعورية وأبعاد نفسية وعن طريقها يوحي الشاعر بمضامينه ليطبع صوره في الذهن ويلفت قراءه للتأويل بتنوع في الجمل والأسماء .. مجموعة " الريشة والطائر " للشاعر فوزي السعد تقول شيئا ً جديدا ً حيث يؤكد الدكتور صدام بأن الشاعر السعد قد جلب أكثر من فكرة في متن النص بنسق ملفت للعين الباصرة .. وأنه يوازن بين تراثه ومعاصرته بثوب جديد .. ويبقى الدكتور صدام في شاعرية فوزي السعد يحطب في بيادر الليل لعله يصيب أرنبا ً فر من الثعالب ولعله يسمع تغريدة من طير ساقط من عذابات الغربان ...
معاني دقيقة تحتاج إلى التأمل بقدر ما في المصباح من زيت , زيتا ً لا ينطفئ .. أجتهد الدكتور صدام في تحليل المجموعة الشعرية " النزول إلى حضرة الماء " للشاعر كاظم اللايذ , لقد كشف الدكتور الأسدي بحق عن شاعرية منسية ذات خبرة في فنه الشعري من أجل خلق بناء موسيقي متصاعد وشعر دافئ يبتعد عن مبدأ التوازي .. وكم أبدع الشاعر حسين عبداللطيف في تقديم مجموعة اللايذ بأضاءات شاعر صاحب خبرة
وانتقاء ...
روافد تنبع من بحيرات متنوعة متفرعة .. تجربة عميقة لدى الشاعر المبدع نصير الشيخ في عبور المسارب صافية النبع عبر مجموعته " تراجيديا الرمل " .. يقف الدكتور الأسدي أمام تراجيدياه الساخنة بالصور وهو يغرف من بحر وينجر من صخر في رؤياه المتشعبة .. شعره جدير بالتأمل لأن قصائده تنقلنا من شعر إلى شعر .. موفقا ً جدا ً في التوازن بين صورته ولغته .. انه أيدلوجي , رسام , شاعر يحمل وجهات نظر عميقة بمدلولات صعبة وهو متفنن لاختيار دواله الصالحة للتعبير عنها .. فقد أمتلك نصير الشيخ مجازات رائعة واستعارات مكثفة أراد بها التوحيد بين الأشياء قبل أن تتبادل الخصائص .. وتهوم عليه روح الشعر كالمطر ...
إن اختيار موضوع عن فحل كبير وقمة شاهقة كالجواهري يحتاج إلى شعرية قادرة وشاعر خصب قادر على رصف الألفاظ وانتقاء الصور واختيار الإيقاع المؤثر .. يجد الدكتور صدام الشاعر عبدالباقي التميمي قد تسربت شاعريته من مرافئ البصرة وعمودها الخليلي الصارم الذي لا يكتبه الا الموهوب .. مع تجربة واقعية ينتقيها ليسطر سطوره وكيف به وقد أختار موضوعا ً دافئا ً عنوانه شاعر الزمن " بصمة تحت نعش الجواهري " الشاعر يطوف على نعش الجواهري ويراه نجما ً لامعا ً في زمان العطاء والإبداع .. وينتصر الشاعر في توصيل بصمته إلى غريب الشعراء ودفين الغرباء ...
قراءة نقدية في مجموعة " الريح وما تشتهي " للشاعر جبار الوائلي .. يؤكد الدكتور الأسدي بأن الشاعر الوائلي أشتغل في مجموعته على مهيمنة الذاكرة المختزنة لمعطيات التراث ضمن أطر إيحائية متنوعة واستطاع بموهبة مدرس مختص وشاعر يفكر في تحويل صمتها إلى لغة تتنفس الضوء بعد أن كان اليبس يمر في ثنايا بعض المفردات لكنه أيقظها من الصمت والجفاف .. الريح التي اشتهت كل شيء .. .. فلا مهرب من الزمن .. هل يتوقف الشاعر الوائلي صامتا ً حين تجف أنهار القلب .. لا يبقى ساكتا ً بل يصـر ّ على الخوض في مسارب الصراع ...
يرسم الشاعر عبدالزهرة لازم شباري ألقه المبدع في مجموعته الشعرية "بكائيات الربيع " بصوره البسيطة الأليفة وغوصه المركز باحثا ً عن لؤلؤة ضائعة اسمها الحقيقية يستقي من بصرته ومينائها وسيابها ونخيلها شعرا ً .. من هنا أصر الدكتور صدام على قوة أبداع الشاعر عبدالزهرة وعدم التقليل من تأمله وخياله باحثا ً عن حياة قهرها السراب وطعنها الطغاة بسنين العوز والفاقة والحرمان .. وأن بكاءه على البصرة بكاء صادق لا تنساه الأيام ...
القلق أول محطات الإدهاش ودافعا ً كبيرا ً للحافز الشعري عند الشاعر عباس عبدالله خضير في مجموعته " وصايا اله الماء " .. إن الشاعر يفاجئنا بالدهشة تلو الدهشة في وصايا مرمزة إلى اله الماء .. رمز الخصب والدعوات الأسطورية .. تنتمي قصائده إلى شعر التفعيلة لخضوعها إلى الوزن قبالة الانفلات من القافية .. فقد اعتنى الشاعر بالمعاني ورقصت قصائده بالكثير من الدلالات .. ينهي الدكتور صدام قراءته لمجموعة الشاعر بقوله " نعم لقد قلت شعرا ً وأجدت وصفا ً كيف وصانا اله الماء .. قال كل شيء مجانا ً للرائح والغادي , والهور ماعون كبير , للطيور وللنسور " ...
ناقد وشاعر .. أكله الشعر خمسين عاما ً .. وهضمه النقد .. دخل الدكتور الأسدي باب الشاعر عبدالكريم رجب الياسري عبر مجموعته الشعرية " الأقلام لا تصدأ " عندما تأمل بريقه الشعري المباح وغاص في جواهره عبر شوارعه المكتظة بالزحام والبحث عنها في متاهة عن مظلمها والتيه أكثر في ضوئها الخافت .. والتي ولدت من رماد عينيه ومرافئ بساتين أحلامه , ورسم لها رؤى تعديلية وإيقاعات متوازنة ترقص رقصا ً على وتر الصمت ..لا تغيب عن متذوق يتصيد في الصخر .. ويبقى قلمه شريفا ً حرا ً نظيفا ً من وسخ الزمان لا يصدأ أبدا ً ...
أسئلة رسم لها الرماد محطات .. يبحث عن نسق شعري يحلم على الأقل بنقاء الروح وصفاء وعذوبة الإنسان .. يقف الدكتور الأسدي عند أبجديات الشاعر حبيب السامر ومجموعته الشعرية " رماد الأسئلة " ذات الرسم الهندسي الجميل .. يفكر بالعاصفة التي تحمل دائما ما هو جديد وغير متوقع ليزرع الأمل ويشعل شمعة في الظلام .. فتجد شعره نقيا ً مثل مشاعره وروحه الصافية وسلامه الصادق .. يعتز بالبلاغة وينقلنا بصور بلاغية متنوعة متشابكة دلالة على شاعرية خصبة وحس نقي وموهبة مميزة ...
خوف وهم ّ وسواد في بقعة الحلم .. كلمة تفجر تمردا ً لتقف نقيضا ً لسيمفونية التمزق .. يتساءل الدكتور الأسدي في قراءته لديوان الشاعر عبدالرحيم مردان الشاهين " ألوان وأقداح " .. ما نهاية الصراع الآدمي .. يخرج الشاعر لنا النشيد الأزلي , فقر وجوع وفرقة وغني وفقير .. ماذا في الزمن من جديد .. الشاعر يكتوي بلهيب الصيف ويتدفأ بسعف النخيل ويداوي جرحه بماء الكوز ويتسلى بأحاديث جدته عن شجرة السدر .. ويبحث عن قدحات مضيئة في الليل .. ويحمل الأمل وينتظر ثمة شئ
غائب ...
بهذه القدحات ينهي الدكتور صدام فهد الأسدي كتاباته المعبرة عن الهموم والوضوح والحقيقة .. لقد نقل الصور بواقعية .. وثمة إرهاصات كشف عنها وترك لنا المتعة في قراءتها .. تسعة عشر شاعرا ً يكتبون شعرا ً أصيلا ً بنكران ذات وشفافية لا جدل فيها .. في العراق الكبير بلد الشعراء الكبار ...
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع