ولوج إلى الأعماق
كنت غالبا ما أراني أختلف عن كثير من النّاس ممّن عرفت في تقبّل ما عادة يفرحنا وحتّى في تقبّل ما هو محزن. تسلّلت إلى جوارحي لأطّلع على الأمر عن كثب. كان دخولي عسيرا جدّا فالظّلمة تغمر المكان وعثراتي كانت كثيرة إلى حدّ أنّني تأذّيت في رحلتي . فبتّ أتحيّن سكون دقّات القلب لأمرّ بسرعة في انتظار سكونها التّالي. فدقّات قلبي كانت بمثابة زلزال تهزّ كلّ كياني فلا أستطيع معها مواصلة السّير ولا مراقبة أفعالي الّتي وإن كانت من صميم إرادتي فهي على نهج اهتزازات وسكنات قلبي وعرفت حينها أنّي عاشق و " لا بدّ لكلّ عاشق من زلّة ولكلّ حصان من كبوة ". أي نعم أخطأت من حيث أردت الصّواب ولم تكن لي نيّة في ارتكاب الخطإ . أخطأت لأنّي أردت أن يكون بلدي سعيدا وأهله ينعمون بالعزّة والكرامة فاندفعت وبذلت ما في وسعي لتحقيق ذلك لكنّي فشلت بل ونالني ما نالني وما زلت احتفظ ببعض الجروح القديمة لأعود إليها فأعدّل بوصلتي . أخطات كثيرا عندما نظرت إلى الدّنيا بعين مشرقة وأحلام أكثر من حجمي وسعيت في الدّنيا كأنّي أسيطر على قيادتها أو أنّي أملكها فزللت المرار العديدة مازالت أوجاعها تعاودني كلّما مررت بأثر لها ولكنّي استطيب تلك الأوجاع فهي تحيلني على خطايايا فأصحّح مسيرتي. أصررت على مواصلة الرّحلة وأظنّني وصلت إلى المركز فوجدتني في غرفة مظلمة تكدّست فيها صناديق اختلفت بين القديمة والجديدة . أمّا الصّناديق القديمة فقد احتوت على ما عاشه الأجداد ومرّروه إلينا فحفظنا أشياء وغابت عنّا أشياء لذلك لم نعد نحزن مثلما حزنوا ولم نعد نفرح كما فرحوا. لم نعد ننظر إلى الصّديق والعدوّ كما يجب أن ننظر إليهما. فقد بتنا نراهما في نفس المستوى ونعاملهما بنفس الطّريقة. لم نعد نشعر بانتمائنا كما يجب أن نشعر ، فعرفت حينها لماذا اختلف عن بعض النّاس فأنا مازلت على نهج أجدادي فالعدوّ عدوّ والصّديق صديق وشتّان بين ما أكنّه لهذا وما أكنّه للثّاني ذاك وبين ما يجب ما يلقاه منّي هذا أو ذاك. ثمّ بحثت في الصّناديق الجديدة فإذا بدفاتر لا تكاد تذكر من حيث عددها ولكنّها رصدت كلّ الأحزان والصّدمات الّتي حلّت بي وببلدي ولم تحتوي إلاّ على بعض الرّواسب ممّا أفرحني وعائلتي وأفرح بلدي وهنا وقفت على سبب آخر يجعلني اختلف عن غيري فأنا عاشق لهويّتي وكلّ خدوشها وجروحها سكنت في قلبي وتمكّنت من جوارحي ولا زالت تؤرّقني وكلّ أفراحها أنبتت فيّ زهورا وبعثت فيّ نشوة وفرحا إلى حين. فالأحزان تجعلني أحزن أكثر وتذكّرني بما قد مضى من وقت مهدور للحيلولة دون المآسي ، للحيلولة دون الفقر والجوع والمرض، للحيلولة دون الانبطاح وفسح المجال للمعتدي بأن يتغلغل أكثر ، للحيلولة دون صراخ الثكالى واليتامى.
أمّا الأفراح فهي تجعلني أشعر بالخوف من الآت والخوف ممّا بعدها. فهل ستدوم تلك الأفراح أم أنّنا سنفرّط فيها بما قد نالنا من نسيان للماضي وعدم التفكير في المستقبل؟ في آخر جولتي جلست استريح ممّا نالني من نصب فإذا بقبس من نور يطلّ على الظّلمة ليبدّدها ويجعلني استشرف فرحا وأغنية يرحل بقدومها الحزن فتختفي معه الصّناديق المظلمة..فليت الفرح قريب..
رشدي الخميري/ جندوبة / تونس
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع