الكلاب
·
تراجعت ظلال القرية خلف طوابير الفلاحين، كانت أثوابهم البيضاء تبدو من وراء الظلال أطول من قاماتهم، وقفوا قليلا، سمعوا من بعيد أصواتا آتية من الغرب، قال كبير الحصّادين: "أيها الناس ... انظروا هذه الحجارة المهملة، اصنعوا منها عرائش صيفيّة لكم ولأبنائكم."
واندفع الحصّادون..
ركضت أمّ أحمد، واندسّت في كهف منحوت في الصخر، أفرغت في جوفه دجاجاتها، بعد أن سدّت فوهة الشقّ الكبير ببقايا سلّة قصب مهملة. رأت من بعيد أمّ سليمان تسرع وراء زوجها الحاج عثمان. ردّت خصلات شعرها المتدلّية تحت الخرقة البالية وقفت بقامتها الطويلة، تذكر أبا أحمد حين كان يمدّ ذراعيه للشمس، لكنّه حين رحل عنها خلّف لها ولدا قاصرا وذكرى حزينة، تذكّرت وهي تنظر إلى الفق ما قاله كبير الحصّادين لها في عام مضى : "لابد أن تعودي يا أمّ أحمد إلينا وأنت متزوّجة".
وضعت يدها في غير انتباه على وجه ابنها أحمد، قفز أحمد بين يديها، تحسست منابت شاربيه ضحكت وبكت، شدّت عقدة المنديل على شعرها الناعم، ثمّ حملت جرّتها الفخارية وخرجت.
قال كبير الحصادين:" ها قد عادت أمّ أحمد ولم تتزوّج، غدا تسمعون عشرات الحكايات في حقول الشعير." ضحك الحصّادون طويلا. ركض الأطفال خرج أحمد غاضبا قال بصوت مسموع:
- أنا هنا أيها الحصّاد.
رفع كبير الحصادين يده في وجه الصّبيّ. هرب أحمد واختفى وراء النسوة حول البئر. رأى بعينيه ماء البئر الرماديّ وهو ينزل من دلو مصنوع من جلد بعض إطارات السيارات القديمة، تناولت الأم منديلها الأبيض وضعته على الفوهة الفخارية، سكبت مياه الدلو شيئا فشيئا، ضحكت النسوة حين رأين مجموعة من الديدان اللولبية ترقص حية على المنديل، فيما راحت مجموعات من الرجال تتطلع في فضول إلى خصلات الشعر المنسابة على الظهر النحيل.
ظهر أحمد فجأة غطّى بوقفته البريئة ظهر أمّه ،صاحت النسوة في وجهه، تراجع قليلا، حمل المنديل وضعه بخفة على رأس أمّه ربتت على كتفه وأثنت عليه.
قال لها:" رأيت الكلاب تحوم حول عريشتنا، هلاّ عدت فربّما تدبّرت أمر الدجاجات في شقّ الصخر"
ضحكت أمّ أحمد. اخفت ضحكتها وراء أسنانها اللؤلؤية. رأت الرجال يتركون حجارة البئر، ويختفون وراء الصخور الملتوية، عادت إلى عريشتها وأخفت جسدها الطريّ تحت الفراش ثم راحت تتطلع إلى السماء.
"غدا تذهب يا أحمد إلى الحقل، لابدّ أن تجمع قليلا من القشّ ، إنّك إن فعلت ذلك عدنا هذا العام بخير وفير".
رأت بعض الحجارة وقد تساقطت من فوق الصخر، وقفت تتطّلع في كلّ اتجاه، سمعت هبات الريح الترابية آتية من وراء الصخر، كأنّها صفارات انذار طويلة، شعرت بخوف، غنّت أغنيات المواسم الأسطورية، دارت على نفسها، تعثّرت بالجسد النائم تحت قدميها، هدأت قليلا.
عادت الأصوات ثانية، اقتربت هذه المرة، ايقظت أحمد، وقف، ضحك، ابتلّ جسده بالعرق الساخن، شدّ شعره بيده، حمل حجرا كبيرا، رماه في الهواء، أصاب الحجر جسدا آدميا، ومن بعيد سمع نباح كلب يتربّص بدجاجات أمّه، ظلّت الكلاب تنبح حتى اشرقت الشمس، تراكضت بعد ذلك الدجاجات تبحث عن حبّات القمح في الأماكن المهملة، فيم وقف أحدهم يتحسس جرحا نازفا. قالت أمّ أحمد : ما اشبه هذا بالكلب، ربّما كان أحدهم وقد أدماه حجر أحمد.
أسرع أحمد تحت الشمس، أومأ بيده هرب الرجل ضحكت أمّ أحمد، جاءها كبير الحصّادين، قال:" ألم اقل لك يا أمّ أحمد إنّك ما زلت بحاجة إلى من يحميك".
هبّ أحمد واقفا، تراجع كبير الحصّادين واندفعت أمّ أحمد تحمل منجلها بيدها، أمّا الكلاب فظلّت تنبح وراء أزقّة القرية المهملة.
علي السعيدي / شاعر المناجم
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع