حفلة
لم تكن تلك الحفلة البسيطة التي ننظمها بعد نهاية كل موسم دراسي مجرد حدث بسيط، بل كانت تمثل لي وقتاً مسروقاً من فردوس ضائع، لاسيما وأنها تفتح باب عطلة طويلة، استريح فيها من نمطية الفصل الدراسي، وأرمي ورائي بمحفظتي وماحملت من كتب ودفاتر، لأستقبل فصل الصيف بشمسه المشاكسة حيناً والجميلة أحياناً أخرى .
كنت في ليلة الحفلة الموعودة أعلن حرباً على الزمن، ويجافيني النوم ويذهب بعيداً عن مضجعي، ويصيبني الأرق في إنتظار الصباح لعله يحمل سر سعادتي، أستيقظ باكراً قبل أن تصيح الديكة، لأتحقق من حقيقة إعتقاد جدتي المؤمنة بأن الديك عندما يصيح، يشاهد صعود الملائكة إلى السماء. وكنت أتذكر فقيه المسيد وهو يحدث المصلين عن الأطفال ملائكة الأرض ذوي القلوب البيضاء النقية[...]
أدرك من بقايا ليل يمشي متثاقلاً إلى منفاه الأخير، متشبتاً بخيوط سوداء واهية تتسرب من صبح يكاد ينطق بلغته الضوئية، أن الكبار لا تستهويهم حفلات نهاية الدراسة كما تستهوينا أعيادهم، جدتي تسبقني إلى الحوش الكبير تحث خطاها إلى حظيرة الأبقار، ثم تحمل سطلاً حديدياً، تضعه تحت البقرة لتملأه حليباً. فيستيقظ جدي على وقع خطواتها المستعجلة، يفرك جفونه للمرة الثانية هذا الصباح لأنه تعود على صلاة الفجر، التي يعتبرها صلاته المقدسة، كنت قد سألته ذات يوم لماذا صلاة الفجر مهمة يا جدي،أجابني من دون تفكير، لأنها صلاة العائدين من بعيد، الشاهدين على ميلاد جديد. يتأبط عكازه الخشبي، الذي يطرق به على أبواب الفرف الكثيرة المتناثرة في الحوش الكبير، حيث ينام أعمامي الستة، تمثل طرقاته الست التي يتفأل بها كل يوم، ويتطير من الرقم سبعة كثيراً، بداية يوم جديد لدى أعمامي. يخرجون من غرفهم الطينية بتتابع فيتوجهون إلى دكان المطبخ، فتضع جدتي أمامهم وجبة الفطور المتكونة في أغلب الأحيان من شاي وزيت أو زبدة وخبر الشعير.
أجد نفسي تائها في عالم الكبار، لا أحد يدرك معنى أن تكون في إنتظار حفلة نهاية السنة الدراسية[...]
يتوجه موكب أعمامي إلى الحقول البعيدة للشروع في عملية الحصاد، يشيعهم جدي بنظرات فخر وإعتزاز كالعائد من حرب طويلة. سألت جدي: لماذا لم يدرس أعمامي في المدرسة؟
يجيبني من عليائه: لأن المدرسة تكره المنجل والمحراث[...]
لم أفهم معنى كلام جدي، وتساءلت كيف للمدرسة أن تكره أساساً، لكن عندما كبرت علمت من عمي الأكبر أنهم حرموا من ولوج مدرسة المدينة الوحيدة آنذاك لأنّ والدهم فلاح بسيط.
عدت إلى الحوش الكبير، أنط وأغني " حفلة، حفلة[...] بَدِّي لمونادا، بَدَّي كيك[...]"
أمام باب المدرسة المتهالك وقفت في صف طويل، أحمل علبة سردين وقطعة خبز شعير، فتح حارس المدرسة الأدرد الباب، ولوح بسوطه الطويل المصنوع من ذيول الأبقار التي كان يجمعها من مجزرة السوق الأسبوعي، طرطق السوط في السماء، فتراجعت أجسادنا الصغيرة وتكورت داخل ثياب رثة وبالية قبل أن يرفع صوته السمج بنظام يا حيوانات[...]
ولجنا ساحة المدرسة في صمت، نجر أحذيتنا البلاستيكية الباردة، ووقفنا أمام القاعة حيث وقفت أستاذتنا، التي أمرتنا بالدخول مثنى مثنى، جلست على المقعد الأمامي منتشياً بفرحي بيوم الحفلة، وضع أصدقائي قنينات الليموندا والبسكويت على الطاولة المزينة ببالونات ملونة، قفزت من مقعدي، ووضعت علبة السردين وقطعة الخبز بجانب القنينات، وفي منتصف الطريق سمعت صراخ أستاذتي، نظرت خلفي فوجدتها ترفس خبزي بحذائها الأحمر، وتحمل علبة السردين بأطراف أصابعها خارج القاعة، ثم عادت غاضبة.
سألتها: أستاذة لماذا رميت علبتي، إنه يوم الحفلة ؟
أجابتني: إنها حفلة مدرسية، وليست حفلة قطط...
خرجت مسرعاً من القسم، والدموع قد حجبت الرؤية عني، عانقت جدي وقلت له: لقد صدقت جدي، المدرسة تكره المنجل والمحراث.
عزالدين الزريويل
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع