حياة البجع
من يملك مفاتيح حياته، لا ينتظر سماع صوت أقدام السجان وهي تقترب من زنزانته، لتتعلق عيناه بحاملة المفاتيح لعله يدرك شكل مفتاح حريته، وينسج معها علاقة متخيلة تجسد حاجة العطشان للماء[...]
لكن في ٱحايين كثيرة قد يفرض عليك المكان سلطته، فتنقاد إليه ليرسم لك معالم حياتك، ويتحكم في أولوياتك ويوجهها[...]
وهي تفرك جفونها وتتابع إلتقاط البجعة لسمكة كبيرة، ردت عليه لماذا إذا لم نخلق في هيئة بجعة على الأقل سنأكل السمك، ونسبح في نفس البركة كل يوم، هكذا يمكننا أن نتخلص من عقدة المكان.
يحك شعر رأسه المتجعد ويجيل بصره في المكان، يتذكر أنه شاهد في زيارته الأولى لضيعة الحاج البشير نفس البركة تسبح فيها بجعة، وكان قد تعجب من مشهد تتابع صغارها وحيويتهم، تساءل أنذاك كيف لصغار البجع أن يكونوا سعداء في بركة صغيرة فيما هو حزين رغم وجوده في مدينة كبيرة.
عاد من جديد إلى حديثه مغ خطيبته، التي كانت تقف بجانبه، أربع سنوات على حفلة الخطوبة التي حضرتها والدته قبل وفاتها، يتذكر دائماً كيف كانت سعيدة بإقترانه بزينب، تحثه على الإسراع بالزواج، كأنها كانت تسابق ملاك الموت القادم لعلها تحتفل بزواج وحيدها. لكن شاءت الأقدار أن تفارق الحياة بعد صراعها مع مرض مزمن إستوطن جسمها الهزيل، وقضى على آخر حلم لها في حياتها البئيسة.
زينب البنت الوحيدة لأسرة فقيرة، تعيش في حي صفيحي، فرضت عليها حادثة سير أن تشقى بعد يومين من حفلة الخطوبة، عندما كان والدها محمد عائداً من عمله في مصنع الحاج البشير صدمته سيارة سوداء وإختفت، إصطدم رأسه بقارعة الطريق فسالت دمائه وفارق الحياة قبل نقله إلى المستشفى. جاء في التقرير أن سبب الوفاة هو حادثة سير كباقي الحوادث التي تعرفها المدينة كل يوم، لكن أصدقاء محمد، والذين يعرفونه كانوا يتهامسون فيما بينهم بسر الحادثة.
تتذكر زينب زيارتها الأولى للمصنع بعد وفاة والدها، فلما دخلت إلى قاعة العمال الفسيحة، بدأت وجوه رفاق والدها تفر من طريقها، حاولت أن تتحدث مع رئيسهم لكنه أشاح بوجهه عنها... كانت وجوهم سوداء تتوشح الحزن ويعتصرها الآلم، لا يمتلكون القدرة على الحديث معها. وهي الآن تقف إلى جانب خطيبها وتتمنى أن تكون بجعة سعيدة، تذكرت وجوه العمال البئيسة في مصنع الحاج البشير، وأشكالهم التي تشبه البجع،فتراءى لها المصنع بركة من الدماء والعمال بجع يسبحون فيها...
صعدت زينب السلم المؤدي إلى مكتب الحاج البشير، أوقفتها كاتبته الشابة وطلبت منها بطاقة معلوماتها ثم سبقتها إلى المكتب. أمر الحاج البشير الرجل الستيني، القصير القامة، صاحب البطن الكبير، الذي يستعين بحمالتين لتثبيت سرواله، الفتاة بالجلوس حيث ظلت جالسة في مكانها لاتريم قبل أن تستجمع شجاعتها آخر الأمر، وقالت أنا زينب إبنة المرحوم محمد العامل السابق في مصنعكم.
رد عليها الحاج البشير مرحبا، تعازي الحارة لك، كنت قد قررت زيارتكم في البيت لتقديم واجب العزاء لكن ظروف عملي حالت دون ذلك.
أحنت رأسها ثم قالت: سيدي زرتكم اليوم من أجل إعداد ملف التعويضات الخاصة بمعاش والدي، كما تعلم أن المرحوم خلف وراءه أسرة فقيرة كان معيلها الوحيد.
ابتسم الحاج البشير بخبث وقال:
للأسف يا زينب محمد، والدك لم يكن عاملاً قانونياً، إنه مثل البجعات التي تسبح في بركتي...
تفاجئت زينب من كلام الحاج البشير، فبدأت تصرخ بهستيريا وصل صدى صراخها إلى العمال، الذين أوقفوا تشغيل آلاتهم ليتبينوا مصدر الصراخ.
خرجت زينب مسرعة من مكتب الحاج البشير فراراً من شبح والدها الذي أوصاها قبل وفاته بعدم الذهاب إلى مكتب الحاج البشير مهما حدث له، وختم وصيته بجملة حزينة: إنه ثعلب لن يتردد عن الدخول إلى بركة الماء لإفتراس البجعة وصغارها.
وقفت زينب في بهو المصنع حيث تجمع العمال لتناول وجبة الغداء، وانتشروا مشكلين مجموعات صغيرة، نظرت إليهم وقالت:
أنا زينب إبنة رفيقكم محمد ممثلكم في نقابة المصنع، لن تنعموا بحياة هادئة وأنتم تقفون كالبجع وسط بركة الماء في إنتظار ما تجود به يد الحاج البشير مصاص دمائكم، مالم تكملوا طريق رفيقكم الشهيد محمد الذي لقي حتفه بسبب نضاله من أجل تحسين ظروف عملكم... إن خنوعكم وصمة عار في جبين الإنسانية، سيسجله التاريخ، ويجعل حياتكم شبيهة بحياة البجع.
تبادل العمال النظرات، وصارت المجموعات المتناثرة مجموعة واحدة، وصعد الشاب عبدالعزيز فوق طاولة، وشرع في الحديث عن مطالب عمال المصنع، مختتماً كلامه ب[ يا عمال المصنع اتحدوا[...] لن نرضى بحياة البجع].
عزالدين الزريويل
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع