خواء مؤلم ينفض الايام و تذرو رياحه قشرة اللون عن معنى الأشياء ويفضح تضخّم بهرج زائف غلّف اوهاما ظنّتها لوهلة جنّتها المشتهاة ..تتواطأ السّنوات مع عقم غريب اكتسح القلب فتتوالى متشابهة في تكرار ممجوج يمضغ آمالها ويرميها في محرقة الضّياع .
كم كانت مسكونة بالخريف تنفذ برؤاها عبر تشنّجاته ..غيماته ..تنسكب مع حبات مطره .. تتماهى مع حنان رقصاته حينا و جنون عزيفه أبدا..تطرّفه ذاك يسحرها بسخاء ..تصغي الي توقه العميق للخصب.. للإمتلاء .. وهو يشعل وقود اللهفة برحم الارض فتهبّ لاحتضان نُطَف الحلم .. لتنموَ وتنضج فاكهة أبهة تعطي أكلها كلّ حين ..
"اووو يالهذه الفوضى!! " صرخت بغضب يغلّفه أسى عميق
اوراق كثيرة في كل ركن .. مصفرّة ومحمرّة . فتيّة ومكتملة ، ناضجة و هرمة طاعنة ، تغادر اغصان شجيرات الحديقة .تكنسها اليوم بلا اكتراث قبل ان تمضي الى الأطباق تغسلها والى الخضر تقطعها والى اللحوم تتبّلها بذاك المطعم الصغير الذي قبل مالكه توظيفها .... تكنسها بنفور وتأفف .ناسية كم كانت تتحمس لرؤية العجوز " ايفانا" وهي تجمعها بحنوّ ، فتهرع لمساعدتها حين تدفع عجلات كرسيّها المتحرك وتتجه صوب سلال الكريسال الصغيرة الموزّعة بعناية وبذوق رفيع بأركان عدة من غرف بيتها الهادئ . تملؤها ورودا مجففة وأوراقا مجعّدة .. عاداتِها تلك " اللذيذة كانت تراها قديما مجرد " عبث مراهق " عادة ستصير لاحقا محلّ سخريتها واشمئزازها ..مامعنى أن نحتفظ بالرّفات بعد رحيل الحياة ؟
ضرب من التحنيط الفاشل للحظة نابضة ..تحاول بإصرار حذف رائحة صوته من سجلات ذاكرتها .. لون همسه ..دفء نظراته ..بريق الأمل بنبراته ..فيغزوها برود طافح باتت تفضل ان تستكين له ." مُريح أن ينطفأ الشغف و يتحوّل الهوس الى لامبالاة رمادية .
ببيت " ايفانا " الهادئ وبشواطئ بتلك الجزيرة الحالمة نما حبهما واتقد .. ينهي عمله كحارسٍ مسائيّ للكشك المجاور ..و يوصل الصحف الجديدة الى العجوز كل صباح وتنتهي هي من اشغال التمريض الروتينية وينصرفان الى قصور الاحلام يشيدان صروحها .. بهالة من القدسية تظللهما أسطورة حب " ايفانا " و"روبرتو" العسكري الذي قضى بمواجهة ضارية في " خط مارث" كانت قد دارت بين دول الحلف والجيوش النازية *. كما أخبرتها العجوز .
..حرصت ايفانا على دفن جثمانه باحدى المقابر المسيحية ووفاء لذكراه تسوّغت هذا المنزل .. وكثيرا ما تشعل الشموع وتقرع الكؤوس وهي تراقص الأطياف على ايقاع موسيقاهما ..تُمضي أشهر الشتاء القارسة بارض الدفء الخضراء ..بينما يغلف صقيع الثلوج أراضي بلدها الذي تعود اليه بفترات متباعدة.
رياح أيلول تولول فتعوي رغبة بالإمتلاء في قفار جذعها المنهك وتنوح بصحاري روحها البلقع قهقهات العدم . ..تواصل باجهاد كنس فناء المطعم .تتطاير الأتربة والغبار .. ..تُكدّسُ الاوراق الميّتة لتملأ بها أكياس القمامة .. خشخشة الاوراق تحت وقع قدميها تشعرها بتشفّ مبطّن ..تصغي لصدى الصرخات المستغيثة فتزيد في إيلامها خائنة هذه الأوراق تنكرت لأمها الشجرة .. لاجل ارضاء غرور فصل مزاجي غريب الاطوار ...تنحني تعمل بفتور . مزيج روائح ينفذ الى مسامها الآن ..تشيح بوجهها ..تحاول انهاء التنظيف المرهق. وكأن بالاتربة تكسو جلدها وبالغبار يسدّ مسامها ومنافذ الهواء بخياشيمها .. . شبه اغماءة باغتتها ..توقّفت ..توجًهت الى حوض الحمّام مترنّحة ، انسكب الماء باردا ، غسلت يديها و وجهها ، همت بالمغادرة مادت الأرض تحت قدميها حين داهمها غثيان مفزع ..تمسكت بحواف الحوض بإعياء ..تنفست بصعوبة والروائح النافرة تسافر مجددا برئتيها. جفاف حادّ بحلقها . عرق بارد ينز من كل مسامها لم تحاول أزالته .. تتلمّس بطنا ضامرة ..تحاول تخيّل ما لم يحدثْ . ولن يحدثَ..
.لوهلة اختفت ملامح الشحوب عن الاشجار الجرداء ..تتراءى لها شجرة أيامها .. مخضرة فروعها . وارفة أفياؤها سامق جذعها.. تسابق يَنْشد ضوعها البعيد قبل القريب ..لكن رياح رفضها كانت أعتى ..طوّحتها حِبال الأماني بعيدا ..بعيدا ركضت بكل نبضها صوب حلمها القصيّ باندفاع الفراشات يجذبها نور لن تعرف انه نار ستحرقها.. بأرض بور وأد طينها المتشقق أجِنّة حلمها الغض ، ألقت بها ارجوحة المُنى . يتعالى صرير الريح و تناثُر الأوراق فترتجف أغصانها المكشوفة من جَلْد الانتظار وصقيع الغربة .. وحيدة كصفصافة .. تتساقط منها لفافات السنوات فتذوي ورود الأماني و يتبخر ندى الأحلام .. تلعَن بِسِرّها نزقها وتهورها ساعة ركبت البحر ذات مساء خريفي لترحل اليه خلسة الى الضفة الأخرى من البحر . يعاودها المغص .. هدير عنيف يصمّ أذنيها دوار البحر يعبث بمعدتها مجددا ... تغمض عينيها بِالم وتعضّ على شفتها السفلى بيأس .. يرتجّ المركب ويترنّح ، تتكدّس الكتل البشرية ذات اليمين وذات اليسار رذاذ الزبد يمتزج بدمع العيون ..يغيض لون الوجوه ويُسمَع عاليا وجيب القلوب .. ظلمة لزجة تتسرب من كل الجهات وتستقر بين الضلوع .. همهمات صغيرة .. بعض سعال و أنات مكتومة وخيالات اوهام و أحلام تؤثث بسوريالية مسرح المركب المهتزّ .. صمتٌ طويلٌ ابتلع الالسنة وخاط الشفاه زمنا.
تهدأ العاصفة و يتناهى بصيص ضوء بعيد فجأة ..تشرئب الاعناق ..تبرق العيون وتلهج القلوب والشفاه بصلوات الحمد والشكر .تراءت لهم الجنان دانية قطوفها ..
"سأنسيكِ سنين الغياب وفصول الجدب سأعود إليك قريبا..!" " تتردد بالذهن كلمات رسائله ..لكن صبرها كان اقل من أن تنتظر اكثر .."ها لهفتي تختصر المسافات! وها وَلهي يعاند الأقدار ! وها خطوي يقبل أرضا غريبة..لأجلك صارت حبيبة.
رسالتهُ الهاتفية القصيرة الأولى إثر عودتها الى بلدتها في زيارة عائلية ..كانت صادمة " ضاقت بي السبل وقضمت البطالة سني العمر .. ولم أجد بدا من " الحرقة" ..سأحفر الصخر لأوفر ما يضمن كرامة العيش ويحفظ ماء الوجه ..غضب ويأس ..وُعود تجدد النبض.. سنوات من الإنتظار تقطف منها سواد الشعر ونضارة الوجه وقرار نزق خطير اتخذته بإصرار من يراهن على ربح آخر ورقة يانصيب .. زفرت بمرارة ..واشتدت قبضتها تفتت حفنة من الأوراق اليابسة..
انخطاف لونه و تقلصات فكّيه عند رؤيتها أربكتها يومها وهي التي باتت تغزل من الرؤى سيناريوهات لقاء لم تخطر ببال مخرج سينمائي.. ..فِرار الكلمات عن شفتيه وهروب نظراته المضطربة من الحاح السؤال بعينيها شقّ بصدرها أخاديد الشكّ ..انقشع ضباب الرؤية أخيرا والتمع سيف الحقيقة وهوى يبتر حبل الأوهام حين سُمِع صرير عجلات الكرسي المتحرك ..وامتدّت كفّا العجوز " ايفا" تحضنان بتودّد السّاعد الأسمر
..
نجاة نوار
متابعة / سهام بن حمودة
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع