بقلم وتصوير: د.هالة
الهذيلي
تشابهت علينا حالات البحث عن السعادة، في رحلة التنفس التي
نعيشها كل يوم، بروح مختلفة، ومخاوف متعددة، وأحلام متراكمة؛ ففي رحلة الاستمتاع
بعبق العطلة الصيفية الوردية، الحربية واللا-بحري، ة أغدقت على قلبي كتلة من محبة
الخطوط التعبيرية على حوامل ورقية، واستراق لحظات بوح مخملية، لسرد هذه الأهازيج
المشاعرية والتموجات الفكرية المنغمسة لحد الثمالة، في أسئلة ميتافيزيقية شعبية
برجوازية طفولية حول معنى الحياة اليومية التي نعيش او لا نعيش، وكلما تحسست رغبتي
الملحة في البوح والرقص حرفا وكلمة ومعاني، تعاظمت امامي التجربة، وتزاحمت وجهات
النظر المتلقية لهذه الإمكانات التعبيرية، فما فتئت ألهث وراء نفسي التي تسبقني
هنا وهناك، وكلي رغبة في اقتناص موعد على العشاء معها، او حتى احتساء قهوة رومنسية
برفقتها.
هذه نفسي تتهرب مني عنوة أو قصدا أو شقاء أو رغبة أو اضطرارا أو
ملزمة أو ماذا؟ أسئلة ما، تنخر راس النحلة التي تنهض بالآخر قبل الأنا، وتسكب في
الأقداح عسل الصبار وسكر الشوك البري.
أعرف جيدا أن نفسي تهوى
العصائر الطبيعية من غير سكر، وأعرف أنني أدمن القهوة مع اللاسكر؛ اتفقنا على موعد
خارج حقول قصب السكر هذا الصباح، إذ غيرت من عادات الرغبة في حب المساء، واتخذت من
أشعة الشمس وذبذبة اللون المصفر دغدغة القلب المهوس بالبقاء.
كنت أمني النفس بأن أقول كل شيء، فلا شيء يعجبني، لا البيت ولا
الجدران ولا الغاز ولا الطاولة ولا شراشف السرير ولا أروقة المنزل الكبير؛ أشعر
بالشعور ونقيضه، وكلي وعي بأن نفسي هي دواء اليوم والغد.
أعرف جيدا سبب هجرها لي، وسبب تملصها مني، أقتنع مرارا بأنني
أجبرها على اللاشيء ضمن كل الأشياء، لأدقق جاهدة في تفاصيل التشيؤ في أشياء مشيأة
بلا شيء أوضح، ولا رهان الحد من الرحلة البلهاء.
أكتب كل شيء، وأخفي عنكم
كل الأشياء، فلم أكن - بعد - حاضرة لسكب راحتي الفكرية على رمال اللقاء، وروعة هذا
البقاء في خانات وتمفصلات لا نعيشها سوى في جزيئات الحلم الملون خارج تفاصيل
الشقاء.
صباحكم وطن يرنو من موعد
العودة إلى فصول الدرس والعلم واللعب في مدارج الحصة الثنائية، ضمن توقيت الخريف
الجديد ونظام الحصتين؛ ونحن نحب الاثنين، ونتعامل معه على أساس يوم الثلاثاء،
ونشتغله باعتباره يوم السبت، ونشعر بكونه يوم الأحد ونمضي بحثا عن عطلة آخر
الأسبوع في أواخر العطلة الصيفية المطولة، وفق ما أملته علينا مستلزمات التعايش مع
الجائحة العابثة، وبأغلب شعوب الأرض متمكنة.
اشتريت اليوم ميدعة زرقاء، وفرح هذا الصبي بلون الكمامة أكثر من
انتباهه للون الكراس والكتاب، كمامة حمراء وصفراء ومزركشة ومرقطة وزاهية بصور
الأبطال وشخصيات الكرتون المختلفة، ولملمت كل جهودي المبعثرة لكي أقنعه أن الحياة
داخل المدرسة جنة خضراء، وأن العلم مشقة بطعم الحلوى البرتقالية، وأنني إذا ما
استمريت في إقناعه وتعنته بالرفض واللاقبول المعلن والصريح بعدم ذهابه للمدرسة
ولعبه بكل ما اشتريناه في البيت، وهو يشاهد مهازل الحكايا الكرتونية، بأنني سأنفجر
في زوبعة الصراخ المعلوم، وما تبعه من إهدار لشحنة الاسترخاء المفقود، إنها طاقة
غريبة تحوم بابتسامة باسمة الاعتيادية، ويدخل وعي الجماعة قسرا في موجة إرباك صحي
متعدد، فبتنا نخاف العطسة وما جاورها، ونحترز من عوارض الحمى ومخاوفها، واقتربنا
من فوبيا الموجة الثانية، وما نحن عليه مستلزمون من أشكال الوقاية غير متمكنين.
لقد مرض زوجي بآلام الظهر وفقراته السفلية، وانغمس جاهدا في
رحلة البحث عن حلول استشفائية، وها هنا الذات الجمالية تسعى لتخفيف وطأة الحيرة
وشحذ همته بأنها آلام عرضية؛ ستستمر
الحياة بدون رفع أثقال البيت الاعتيادية، أو المرور بتجارب العنف اللفظية، سيكون
الأمر على ما يرام، بفضل قدرة الإلٰه وآمالنا الخيالية.
تمكنت باسمة هذا الأسبوع
من الابتسامة النائمة في درج خزانتها المزخرفة بقطع الورق، المرسومة بتعابير الحب
الأبدية من هذه العصابة المحلية، لكن إحساسها مفقود بقدر انتباهها للمفصلات
والفصول الشعبية والجماعية والفردية والغيرية.
تبتسم في صور السلفي، علها تضفر صورا بدون فيلتر، وتكون مائة
بالمائة طبيعية؛ هي لا تكتسب في الحياة سوى صبر الابتسامة المتخفية وراء تصريح
علني بأن الحياة رحلة بحث واقتناع بقضاء القدر، وارتباطنا بالطاقة التغييرية، كلما
وددنا رحلة الغوص في رحاب الكلمة الودية.
أتعلمين يا باسمة أنني
أكتب هذه اللحظة وكلي ألم ذريع ينخر رقبتي وأنفتي وكبرياء كلماتي المخملية؛ كنت
كما كان هو، فأصبحت أجاوره لحظات التطبب، وأخالفه درجات الآلام النوعية؛ مررت
بتجربة فاقت كل توقعاتي اليومية، فبكيت كل إحساسي بالضعف، وبحالات هلعي من آلة
التصوير بالرنين المغناطيسي، والفوبيا التي تسكنني من أماكن مغلقة، وما ينجرّ عنها
من سقوط ضغطي وهلعي لمشاعري.
برمجت طاقتي بأن لا مفر من التجربة للكشف عن أسباب الداء وإيجاد
الدواء، وكانت الساعة إلا ربع من أبشع ساعات التجربة الحياتية التي لم أجد فيها
تحويرا ولا عقلانية؛ أكره كل الأماكن المغلقة والتحتية، ولا أسبح مطلقا في أعماق
البحار إلا بمخيلتي الافتراضية، وأبدلها توقا للركوب في أعالي السماء شوقا وحبورا،
وفق ما نستشعره بعمق الرسائل الكونية، بأن الحياة فرصة للوقوف على قوتنا الداخلية
.
ألم الرقبة، بما تحويه من
التهاب عضلي وعضوي في فقرات، تجعلك مشرئب الرأس، وثاقب الرؤية الأمامية، فلم أجد
غير الابتسامة، فابتسمت مرغمة لباسمة لكي تبتسم ذاتي المتبسمة في مشارف الفجر
الليلية، سأرسم وسأكتب وسأرقص، هذا هو الأمل والحلم واستحقاقاته البعدية.
أنظر إليك يا باسمة، وتشفع لي عيونك المحتمية في رواق الكلمة
واللغة العربية؛ أحلامي مكتنزة ومتضخمة، فحلمي لا يتبع حمية صباحية ولا مسائية،
سأعزمه الليلة على طبق بيلا إسبانية، أكلت أمي بنهم، وشكرتني على حبي لها، الذي هو
حبها الأكيد والمتحقق والمتمكن بكل ما أوتيت من جدية.
سأحلم واقعا مشبعا بالسفر والتحليق، على الرغم من وطأة ألم عنقي
المكبل بهذا الحزام الطبي المهيمن على حركتيء والمتصرف الرسمي في قدرات أصابعي
لرسم هذه الحروف والأحاسيس الواقعية.
سأراود الحلم واقعا،
وأتمكن من جدران قيده لأوقعها في لحظات الامتنان في كنف المصداقية؛ سأصور - على
الرغم من أضراري البدنية- حلما ولونا وجداول من بشائر الحمام، بأن في السودان
ستزهر سنابل القمح بعد هدوء فيض النيل وأضراره المنسوبة لبنية تحتية متضررة بشكل
واضح؛ وستنطفئ حرائق سوريا؛ وستجد الأمم العربية حلولا للدولة الفلسطينية بين حاقد
على التطبيع وبين مسلم به كضرورة استراتيجية. أحلام العرب الواقفة بين الآنية
والجماعية والغموض، في رحلة الإقرار بأن في ذلك صلاحية؛ ستعود السنة الجامعية،
وكلنا خوف من حالات العدوى الأفقية، سنلبس الكمامات، وسيلبسون الأقنعة البلاستيكية
الوقائية، وسنتواصل عن بعد متر أو غيره من أجل صحة أطفال الحلم الزاهر بأن 2020 هو
من بين أكثر الأعوام جمالا وحبا وصبرا للاستمرار، قناعة بأن الحياة اختيار ووعي
وحرب ضد السكون في دائرة الراحة الكلية؛ ستهرب أعراض حرارة العالم، وسأسافر إلى
باسمة، الذات المتحمسة لفائض نجاحاتها الأكاديمية، تنثر ما تشدوه من لوحاتها
الغرافيكية واللونية، وتعيد شباب البحث في طرق وطاقات إمكان غير سلبية، وأن تسكن
السحاب في خفته وبياضه وعلوه ضمن طاقة الثراء الاستحقاقية لحظة إصرارنا على العيش
وفق زمنية تحقيق الاحلام الخضراء والبيضاء والصفراء والزرقاء والوردية. واشرب قهوة
في برجي العاجي، وأزكيها بعطر العود الأسود وبعض نوار اللوز التونسية…
إني أكتب بذاتية علنية،
ولا أصبو من ذلك إلا إشباع رغبتي وشغفي بالبوح في صوره اللونية، وإعلائه موقفا
تعبيريا ونوعا من الثرثرة الاستشفائية المشبعة بالموضوعية وفق قوانين المتضادات
الاصطلاحية…
لم أعد أحتمل هذيان الألم...
ساترك..
وأنام.
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع