بقلم د.هالة الهذيلي
تعددت مسافات الحيطة والتوقّي من لسعات البعوض هذه الصائفة الحارقة، واختلفت مواسم الاشهار الأكثر فشلا لإقناعنا بان الفتاك هو الأكثر فاعلية في مساءات الليل الطويل للقضاء على هذا المتطفّل الصغير في مجال جونا الكبير. لم تفتح باسمة النوافذ هذه الليلة، ولم تعرف كيف يتم اصلاح المكيّف المعلّق في اقصى نقطة من ارض هذا البيت الفسيح المغلق، تنتابها لحظات الملل من البيت وتسعى للبحث عن منزل اخر لاستئجاره وتغوص في بحر المواقع الالكترونية الصانعة لكل الفرص. اصنع فرصتك ستجدها حتما في راحتيك وهي منغمسة في رحلة التوقي بالطاقة الإيجابية وتستجدي ميولاتها الجمالية لكي ترسم بيتها المنتظر وفق مجلة احكام الواقع الغير مستقر. تزداد الحرارة في هذه الساعات المتأخرة من الليل، وهي في قمة استرخاء حبالها الصوتية وفخورة بإنجازاتها العبقرية. لقد نام الأطفال دون عناء او صراخ ينبعث الى اخر شوارع الحي المزدحم بأشكال التعايش العفوي والمتصنع، لتجد فيه كل أنواع الملابس المعلقة على حبال الغسيل مرفرفة عاليا، وتشتم بين ازقته روائح البخور والملوخية والقهوة المحترقة في صباحات اليوم الجديد.
اشعر كباسمة بالقلق والملل وفي عالمي ابحث دوما عن الجديد المرتقب، فلم اكتف بتغير لون الوسادة ولا اغلفة الحشايا بل اخذت اريكتي المدللة، ذات الوظائف المتعددة، فهي حاملة لهمومنا واردافنا ونواميس غضبنا وهزات فرح اجسامنا والعابنا وهي حمالة لأكوام الغسيل المجفف ومخلدة لكل بقع القهوة المسكوبة في ليلي السهاد الطويل، وبقايا عصير الشكلاطة التي تخاصمت حوله الايدي الصغيرة المطالبة بالقسمة ضمن مبدا العدالة المحددة في عالم أقرب منه للدكتاتورية المعتدلة ... فقد عزمت على تغيير شكلها ولونها وحياكة ملمسها. هكذا انا كباسمة وكحالمة، وكسالمة وناجية وفاتنة وحامدة... لست ابدا راضية او معتكفة لإشباع الاكتفاء او به متمسكة. لقد اخترت من الألوان مزيجا بين الأزرق والاخضر الفيروزي والرمادي المطفف بالأبيض الناصع، وفي حالة فريدة من نوعها بدأت علامات النضج اللوني تكتسح ذائقة باسمة، فقد قررت الحالمة ان تدخل ألوان باردة في بيتها المشتعل باللون الأصفر والاحمر والبرتقالي وهي مدججة بقوة الحركة الصاخبة في نقوش تفاصيل كل ركن من هذا الحقل الزهري. لكن ساعة الفصل والحسم في تغيير الهدنة بانت اليوم مطلبا مشروعا، فاكتفيت بنعومة طاقة المكان الذي ارغب وتشاكلت الرغبة والتمني مع الواقع المرضي ضمن رحلة الفرصة القادمة. فرصة التماثل لرزق العشق يجعلنا نطير بلا اجنحة، وفي حقول الأسهم المتكررة لليالي الاشتياق للانا الحالمة.
تصفحت باسمة صفحات النافذة الزرقاء، لتبعثر في عطش عن تطلعات حظها الجميل لبرج القوس الملعون بخبرة التحدي المجنون. تأكدت من مميزات ومواصفات برج القوس الناري وتحمست لخصال التحدي المكنون في تفاصيل عيشها المختوم بطرق التجديد المأخوذ برهافة الحب المخفوق بواقع الجماد المتروك. لقد بدأت تهذي بين الفينة والأخرى، وتشغل فكرها المشدود بمخلفات الطاقة السلبية التي نشرها ذلك الرجل المجهول في خانة الزمالة المعروف. كان لقاء جدّ عادي، وكان يوما جدّ مربك لقناعتها بان للكل ميزة الطيبة المعروف، فاكتشفت باسمة يومها ان اسنانها تصلح لتبرز بين الفينة والأخرى في تكشيرة اللبوة رغم ابتسامة الهدنة التي تعودت. ان نختلف ذلك امر مباح، وان نتجاوز قوانين الاختلاف هو ذلك السوء المطعم بلون الاختراق لحدود الحرية والاحتمال. انتهت مشمولاتها البيداغوجية واخلت نفسها لعطلة روحانية لاكتشاف ذواتها المحلية والعالمية.
فتحت المذياع، واشعلت مبخرتي الذهبية وانسكبت الروائح والامواج في لطف عجيب على راحة انفي الممشوق، وانغمست في طاقة الحب المجنون، فللبخور سحر وكمون. الطقس يزداد حرارة والبيت لم يعد غير غيمة متبخرة، بهائية، والرؤية بدأت تحجب تحت ضلال النظارات البلورية التي احملها وتحمل مسار وضوح المشهد الحي في ليلتنا الصيفية. وهذه الانا الراقصة بين الفينة والفينة، تنغمس بين المكالمة والمكالمة والسؤال عن تفاصيلنا الصغيرة والكبيرة مع امي الجميلة عبر اثير الهاتف المحمول.
تختلف التفاصيل المثيرة ليوميات الفردانية الغارقة فينا، لنضمن تشابهات متفرقة في محايثة الواقع الملغوم بأحداث العالم الجديدة، فبالبيت الحرام لم يكن حجا كسالف الاعوام ولم تزدحم صفوف المصلين ولا جبل عرفات بالمؤمنين والمؤمنات. لم تسجل حالات تدافع ولا ضحايا ازدحام ولا حالات اسعاف متعددة، بل كان حجا بهائي الهيبة وخرافي المشاعر. لم نكن كما نحن يا باسمة ولم تكن احاسيسنا له عادية، كان عيدا مكمما ومحررا ومفرزا لكل أنواع الادعية والتضرع للخالق الرحمان الرحيم. وكان عيدا ببلدي ممزوجا بالقبل والمعايدات والسفر والرجوع من المهجر وحفل الختان وفطور صباح مصور على صفحات الانستغرام، ومزودا بتثبيت جماليات الصدف المنمّقة. لقد اتممت كل المخلدات بالذمة من جزئيات اليوم العيدي البهجة والصاخب الحركة، فلم استجمع قسطا واحدا للراحة بل امضيت عقدا ساديا على حركتي المتواصلة غير عابئة بآلام اليد، او بانشغالات العقل والقلب. فكرت في رهافة الحلم وجبر الخواطر وكل ما منحته لي امي من مخزونات التزود للعيش في حياة كهذه الحياة.
هو الليل يتشابه علينا يا باسمة في سواده، ويختلف في نسائمه المنعشة بين كل ليلة وليلة، ولكننا نأكل مرارا ونبكي مدرارا على حرائق بيروت في هذه الساعة الملعونة. فلم تموت الانفس المظلومة ولم تتشرد اجسام الأطفال المبتورة. كله في ليلة واحدة، انفجار وهدم ومساندة واخبار الساعة الواحدة بعد منتصف الليل تفتح امامي عالم الحزن الكبير. تفاعلت لدرجة التعاطف الأسمى وانتفضت من إمكانات تملك الحزن بقلبي وتنفست عميقا ونمت.
انها لأول مرة تعتريني حالة التذبذب المشاعرية في رحلة فهم الوجود الحربي بداخل نفوسنا المستقلة، وتعثرت الكلمات بقريحتي من فرط صدمة التلقي التي يصفعنا بها هذا المحيط المتسع المنفتح الشاهق الخارق السريع المتباطئ الملعون المتميز.... اجدني يا باسمة محلّقة في هواء لا اكسجين فيه، واعيش بأرض لا جاذبية عليها، فانتفخ محلقة بعيدا في تراب السماء وارتطم تباعا على هشاشة الكون الذي يسكنني ولا اسكنه. هلت انوار صبح جديد واستفاقت القبيلة التي تشبهني في اللا تشابه لنتبادل صباحات الخير ونمضي قدما وبوتيرة مسرعة نحو المشاكسات والمهادنات والمهاترات والمعاكسات والضحكات والمحسنات. اكتشفت في المغازة الجديدة التي تجاورني نوعية متميزة من محسنات الخبز فأدمنت على شرائها، علني أحسن كل صباح من مزاجات هذا الجبل الثابت في راسي، وارسم سد يغلان، في هبوب الراحة المستسهلة. اكتشفت اخيرا ان للخميرة مفعول سحري وللخبز طعم مغاير، واني احن لخبزة امي وقهوة امي، فدمت يا امي.
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع