سيّدتي المناضلة
بلغت من العمر كثيرا و ما رأت من الدّنيا أكثر من قريتها الّتي تأويها .و ما لبست أكثر ممّا يستر جسمها المنهك فقط وما زارت مدينة لفسحة أو الاستجمام. لم تعرف من المدينة ربّما سوى المستشفى أو السّوق الأسبوعيّة في بعض المرّات.. ربّما درست في المدرسة و ربّما لم تحظ أبدا بحمل محفظة لها فيها كراسها وكتابها وأقلامها..لم تشارك أبدا في نقاش حول مسائل اجتماعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة رغم أنّها قد تدلي بتعبيرها البسيط بما قد يفاجئ الجميع فهي في نهاية الامر تتعلّم من الدّنيا و تعيش في الدّنيا.. تعلّمت ان تحمي عائلتها و تسعدها حتّى ولو على حساب نفسها وجسمها. تعلّمت ان تصبر رغم الظّلم المسلّط عليها من جميع الجوانب و تعلّمت أن تكون قويّة رغم ضعف بنيتها ..تدخل الغابة بمفردها او في جمع من النّسوة فتجمع حطبا في حزمة و تتودّد لحارس الغابة أن يسمح لها بحملها فدونها تجوع العائلة و يفتك بها القرّ..ولأنّه قريب من المأساة يقبل على مضض و قد يرفض بحجّة أنّ القانون لا يسمح فتتحيّن فرصة غيابه لتجمع حزمة أخرى فالقانون الوحيد الذّي تعترف به هو بقاؤها و عائلتها على قيد الحياه دون أن تسيء الى الآخرين .. تحمل الحزمة على ظهرها الّذي لم يقصمه الزّمن رغم قسوته عليها وتسير كما السّلحفاة متثاقلة لثقل الحزمة و ليس تباهيا أمام جاراتها و قد تكون فرحة بقدر ثقل حزمة الحطب لأن ذلك يعني لها أكثر حطب في الكوخ ..أكثر دفء ..أكثر توفير لوسيلة طبخ و اكثر تأخير ليوم آخر في جمع الحطب..تدرّبت على رفع الأثقال على مدى الزّمن مرغمة و ليس رغبة في الفوز بلقب بطولة أو كأس او توقا إلى الشّهرة وصورة في التّلفاز أو في مجلّة للتّسويق..تصل إلى الكوخ المتواضع و ترصّع حزمتها في ركن منه أو في السّاحة القريبة من الكوخ..ثمّ تستأنف أشغال التّنظيف و الطّبخ لتلتحق بعد ذلك بمن ذهب وراء الشّياه من أفراد العائلة فتزوّده بما استطاعت ان تطبخ أو بكسرة صنعتها لتوّها وبعض اللّبن و قد تصاحبه لبعض الوقت ..تعود بعد ذلك لتتحمّل أعباء احضار الأكل لبقيّة أفراد العائلة فقد يعودون في أيّ وقت من المدرسة أو من المعهد و ربّما من العمل بالمدينة المجاورة..ثمّ تستريح إلى جانب جارة أو جارات جلسن حول بعض الشّاي وهنّ يتحدّثن عن موت فلان وعرس فلانة و ماقيل حول مصدر مال أحدهم و قد أحيطت حوله خرافات من أنّه صاحب جنيّة أو استخرج كنزا من الجبل أو من داموس أو ..ورغم بساطة التّفكير و هشاشة القدرة على التّحليل فهذه النّسوة صنعن تاريخا في تلك الرّبوع و صنعن رجالا يتشبثّون بالأرض و يذودون عنها..تنتهي جلسة النّسوة بعودة الأولاد أو عودة الرّجال بالشّياه من المرعى .. وهنا تبدأ دورة اخرى من العمل الّذي لن ينتهي مع حلول اللّيل. عندها تتفقّد هذه المرأة كلّ الموجودين بنظرة حالمة و تحصي بنظرة أخرى شياهها و الماء والحطب و تأخذ بعد ذلك مكانا بين أفراد عائلتها لبعض الدّردشة و الّتي على إثرها تنام لتستعدّ ليوم جديد ينتظرها...
رشدي الخميري/ جندوبة /تونس
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع