الفصل التاسع من رواية نوّار الدفلة
فتحت أحداقها وشخصت في السقف فاكتنفتها عتمة المقصورة الصغيرة تاهت في ظلمتها وتعطبت بوصلة تحديد الزمن.
هل هو الليل ؟ أم هي القيلولة ؟
احتضنت ركبتاها إلى صدرها وألقت برأسها عليهما فانسحب عليها ذلك الشعور بالتوهان والخوف زادت من التكوّر والضغط.
رفعت رأسها عندما سعى إليها إدراكها بلُمعة.نزلت محاذرة من فراشها اعتلت الدراجات وفتحت الباب الصغير للمقصورة فلمحت شقيقاتها الصغيرات نائمات ، منتشرات على أرضية الغرفة تفصل بينهن وبين باب الخروج إلى الباحة شفيقة أمهنّ. جسم ممتلئ في تكوّره جمال رابض يحرسهن .
صفّت الأجساد الصغيرة المبعثرة على الأرضية ثمّ التصقت بالجدار مباعدة محاذرة من مغبّة تفطّن أمّها من تسلّلها. نخزتها كومة قشور اللوز. كتمت وجعها وانسحبت من فتحة الباب إلى صحن الدار.حرقت الأرضية التي ما وصلتها الظلال باطن قدميها بحثت عن شبشب في السقيفة فما وجدت مرقت إلى الزقاق حافيّة.
سمعت الشيخ الضاوي يردّد اسمها مناديّا .اقتربت منه فأومأ بإصبعه الى الكرمة الوحيدة المتوسّطة للحوش. من القلّة المعلّقة على أغصانها صبّت الماء في طاسة نحاسيّة وجدتها فارغة بجانبه .
تحاشت النّظر إلى الغرفة القبليّة لكنّها انعطفت نحو شبّاكها تطلّ منه جذبتها رائحة الجاوي الأحمر فوضعت الإناء في الفجوة الصغيرة ثمّ نزلت إلى العتمة تدوس التربة الملبّدة .تمكّنت منها قوّة خفيّة لا تدري ماهي قوّة دفتعها نحو اللحاف الأخضر المُغطّي للضريح .
ربتت عليه بحنوّ ثمّ تسارعت أصابعها تطرق في عنف كأنها تدعو ساكن القبر إلى الاستيقاظ. التحم من في داخلها بأطياف المكان فصُعق جسدها للصدمة وبدأ في الانتفاض يزوم، يضحك يبكي ويصرخ .
وقف جاهدا من مجلسه. تحسّس عكّازه وتقدّم بطيئا نحو مقبرة جدّه الذي يتقاسم معه الحوش .
أخذ طاسة الماء وقرأ عليها المعوذتين وأيات الكرسي ثمّ اغترف حفنة منه ونثرها في عنف على وجه نوال فتحت عيونها وسكنت حركتها إلا من شهقة يلفظها صدرها بعد نوبة البكاء.
مدّ لها الطاسة . كرعت السائل في شفطة عجيبة اطمئن لها الشيخ الضاوي .
هاجم خوفها من شفيقة كلّ المخاوف التي سكنتها في يومها.يجب أن تعود إلى الدار قبل استيقاظها..
من النواة انطلقت من قِبلي قفصة الدائريّة الشكل انبثقت تبحث عن الماء عن الواد عن الأحواض الرومانيّة توجّهت نحوها مثلها مثل كلّ السّبل والأزقة إليها .
نادتها عيون الماء هو نفس النداء الذي رمى بالأفعى العاشقة إلى الفناء.
أحواض أزليّة ترعاها معشوقتها تلك النخلة جذورها مغروسة في تجاويف الصخر تُعانق السماء تُشاكس الشمس الحارقة وتُغني ملحمة هرقل العظيم كلما اكتمل القمر بدرا.
مُهرولة في الممرات والأسباط الظليلة تحاشتها ثمّ اخترقتها العيون المتطلّعة لها في اشفاق ونفور وشهوة .
نزلت المدارج الصخرية إلى الردهة المشرفة على حوض النساء الصغير.مالت برقبتها فرأتهم يتسلقون بأجسادهم السمراء النحيفة النخلة المنحنيّة لأحفادها.
يتقافزون من شاهقها في حركات بهلوانيّة استعراضية كالقفز من النخلة والهرولة بعدها بخطوات سريعة على الجدار العموديّ للمسبح أمام أنظار جمهور مُشجّع ومُساهم كلّ حسب سنّه ومؤهلاته . يختارون نقطة انطلاقهم .
أحد أقواس ردهة دارالباي أو الجذع الشامخ السامق
يرتطمون بماء الحوض الكبير يسبحون.. يسترخون ثمّ يُعاودون الصعود والارتطام .
كم حرّضتها حبيبتها النخلة على معانقتها و القفز من شاهقها الى حوض الذكور.أضمرت رغبتها لسنوح فرصة .
اكتفت كما في كلّ مرّة من القفز من الردهة إلى المسبح الصغير.استلقت على ظهرها مُتأمّلة رأس النخلة الضاحكة المُحمرة بوهج ما قبل الغروب.
رمت خوفها و كوابسها لتبتلعها الطحالب فاستشعرت سكينة تهدهدها
جلست على حافة الحوض مداعبة للسمكات الصغيرة المتحرشة بقدميها تدفعها عنها برفق ثمّ تنتظر دغدغتها لها في متعة .التصق بياض ثوبها الشفاف بوهج حمرة حرارة جسدها فتحوّل إلى بتلات زهور ورديّة .
رمقت مبتسمة لعب رضيع بصدر أمه المكوّر الضخم الذي طفى مترنحا مع الموجات الكسولة. يُغرقهما ثمّ ينتظر مشدوها بروزهما من طيّات ثوبها الواسع لينقض عليهما يرضعهما أو يُغرقهما ....
تأملت صدرها النافر المكور الملتصق بها و غاصت في الماء مقتربة من الرضيع فرمى يده الصغيرة يتحسسها باكيا حال الذي اكتشف لعبة جديدة يُريدها احتضنته أمّه ورمقتها بعين حارقة فقد تناهى لها صدى لعنتها المرافقة لها.
انسحبت من البركة وعاودت جلستها تُحادث نخلة وادي الباي .
إجهاد التودّد لهم ولأمّها فلا نفع فيه .
ماكانت تدري هل أن الأفعى الكامنة فيها وُلدت معها غذتها أمّها شفيقة بلعناتها و دعائها عليها فكَبُرت.
أم أنّ الأفعى العاشقة العطشى المنكّل بها انتقمت منها فاخترقت مسامها وجعلتها في حالة شبق دائم للمُعابثة حتى وإن كانت من رضيع
هكذا كانت نوال بنصفها الأوربي الغامض الأصول ونصفها الشرقيّ البربريّ .
أفعى الأحواض الرومانية عشيقة هرقل ومحظيّة الباي صاحب الأمحال وفاتنة عثمان سائق سيارة النقل وملهمة الشاعر المدرّس عبدو .
أفعى قبصيّة قنّاصة بعيونها الزرقاء المتماوجة تحت أهدابها الطويلة السوداء...
هادية امنة / شاعرة وكاتبة تونسية
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع