جسور مبتورة
أحسست اليوم بالفرح، و أنا أتفقد صندوق بريدي، فقد وجدت فيه رسالة، مضى وقت طويل لم يراسلني أحد. آخر مرة كانت منذ سنوات طويلة، من رفيق صباي بالجنوب التونسي.
هناك، حيث أشجار النخيل الباسقة، تصطفُّ متسامتة، سامقة. حيث يهمي الماء لجياّ رقراقا. قضيت طفولتي لاعبا مع لداتي، في إحدى الواحات وارفة الأفياء، ننهل من قطوفها. غيرمكترثين بما يمكن أن يعكّر صفونا.
لم نكن نعبأ باختلافاتنا، بل كان ذلك مدعاة للتناسق والانسجام بيننا.
كنت مختلفا بلون بشرتي ناصع البياض، لكني كنت مأخوذا بتلك السمرة الجميلة، الغالبة على بشرة لداتي. كانت محببة جدا لديّ.
أمضيت ردحا من الزمن في ذلك الملكوت الأرضي وارف الأفياء، أنعم بخيراته.
غير أنّ ظروف عملي اضطرتنا للانتقال إلى العاصمة. ما إن حللت بها حتى شعرت أنني منبّت عن جذوري الضاربة في أرضي الفيحاء، تحاصرني المدينة ببناياتها العجوز، وتحوّطني بيديها كأفعوان. كاشفة عن وجه مجعد لساحرة شمطاء. أشعر أنّها تخرج لي لسانها هازئة مني، ممعنة في الشماتة، وأنا أتخبّط في متاهتها، تائها في دروبها المعقدّة كالأمعاء، تزدريني جدرانها الخرساء، وتتقاذفني أزّقتها ككرة مطاطية بلهاء. تنفذ روائحها الكريهة، إلى أنفي فيحتقن صدري، و يضيق تنفسي: روائح قويّة مختلطة كأنها ترياق لسحر قديم… مذ وطئتُها، ناءت روحي بفظاظة بعض الناس، بسحناتهم العابسة، ووجوههم المكشرة. والتقطت أذناي عبارات قميئة أشعرتني أنني غير مرغوب فيه. تساءلت في نفسي: - أنّى لي أن أعيش في المدينة، وأنا الرّيفي الغارق في البداوة؟ نعتني البعض ب"النازح". وسخرآخرون من لهجتي الجنوبيّة. أمطروني بوابل من كلماتهم اللّاذعة، وكأنّ لهجتي المختلفة جرم يجب طمسه… قال لي أحدهم، ذات مرّة وأنا أسأله أن يدلّني على مكان لا أعرفه: - لمَ لا تعود إلى القرية التي قدمت منها؟ تكاد العاصمة تلفظكم خارجها، لثقل حملها. كانت عباراته تنضح احتقارا. لشدّ ما استهجنت ذلك السلوك البائس. وأزمعت أن أدحر مثل هذه التصرفات الفضّة. فأنشات - بعد أن رسخت قدماي في المكان- جمعية لمناهضة كل أنواع التمييز العنصري. أطلقت عليها اسم " جسور"، انضمّ إليّ بعض الشبان والشابات، تحدوهم الحماسة. وكان من ضمنهم غادة هيفاء، أسرتني عيناها النجلاوان مذ لمحتها أول مرة. بدت "علياء" ساحرة: بأنفها المستقيم في أنفة، وابتسامة تفتّرعن أسنان بيضاء منضدّة بعناية، و شعر فاحم السواد، أرسلته في جدائل رقيقة. أضفت عليها بشرتها السمراء اللاّمعة، سحرا وبهاءً. وكأنّها تمثال عاجيّ، تفنّن النّحات في صنعه. سألتها عن دوافعها للتطوّع، فقالت بنبرة واثقة: - عانيت طويلا من إقصاء البعض لي ونفورهم مني بسبب لون بشرتي.
لم يفقدني ذلك اعتزازي بنفسي، بل ضاعف من ثقتي بها، لإيماني أن المشكلة تكمن فيهم، وليس فيّ، لذلك قرّرت أن أتصدّى لكل من تسول له نفسه إهانتي أنا أو غيري. صدقني، أشفق على أناس يرون أنفسهم محور الكون، فقط لأنهم ولدوا ببشرة بيضاء. أعجبتني شخصيتها القوية، و بدت لي رائعة شكلا ومضمونا. رمقتها بنظرات يشوبها الإعجاب، فقالت لي مستفسرة بدورها: -علمت أنك منشئ هذه الجمعية، هلاّ أخبرتني بدوافعك خاصة أنك أبيض البشرة؟ أجبتها مازحا: -أ لأنني أبيض البشرة يتحتّم عليّ أن لا أنشئ جمعيّة لمناهضة العنصرية، أ لم تلاحظي أنك تقصينني بسبب لوني؟ و انفجرنا ضاحكيْن، ومنذ تلك اللحظة أصبحنا قريبيْن جدّا من بعضنا.
توطدّت أواصر علاقتنا، لتصبح حبا جارفا متبادلا. لم أتصور أنني سأحب أحدا مثلما أحببتها. صرنا نلتقي دائما حتى خارج نشاطات الجمعية، في ظلّ استغراب المحيطين بنا وعدم فهمهم لرقيّ علاقتنا. نتهامس، كعصفوريْ "كناري" غير مهتمين بحيْرة مجموعة من الفتيات، ينظرن إلينا باستمرار، و كأنه لايوجد غيرنا في المقهى: قلت محدّثا نفسي: - ليت النّاس يرونها بعينيّ العاشقتين. قبّلتها على خدّها، مترنما في شبه همس: "لاموني اللي غاروا مني، قالولي آش عجبك فيها؟ جاوبت اللي جهلوا فني خوذوا عيني شوفوا بيها". استقرت "علياء" في شغاف قلبي، وباتت أقرب إليه من وتيني، فأزمعت أن أٌقدّمها لعائلتي، في خطوة أولى لعلاقة رسمية بيننا. لطالما حثتني والدتي على الزواج، لكني لم أكن فيمَا مضى قد وجدت ضالّتي، أمّا الآن أشعر أنني عثرت على لؤلؤتي المكنونة، وأنتظر فقط مباركة أهلي التي كنت متأكدا منها. فما من مرّة اعترضوا على اختيار من اختياراتي. لم أرَ والدتي سعيدة مثلما رأيتها ذلك اليوم، بعد أن أخبرتها بقراري، فسرعان ماحدّدت موعدا للتعرف على الساحرة التي قلبت كياني فجأة. بدت "علياء" كآلهة الجمال، تتهادى بخيلاء، بقوامها الممشوق، و أنوثتها الصّارخة، حتى كدت أغبط نفسي، وأنا أتاملّها بإعجاب شديد. قلت لها متغزلا: - كم أنت جميلة يا ملاكي. ليس عجبا أنك ملكت كياني. ماإن لمحت أسرتي، "علياء" حتى بدا عليها الذعر والارتباك، و أخذوا يتبادلون نظرات شزراء... رغم أنهم حاولوا التظاهر بعكس ذلك، فقد رحبوا بالضيفة و أكرموا وفادتها. و أمام نظراتي الملحة، فاتحتها والدتي بموضوع الزواج: قالت لها: -ابني يريد خطبتك، هل لك أن تحددي موعدا مع عائلتك نزوركم فيه لطلب يدك. أجابت علياء بلهجة واثقة: -آسفة، لا أستطيع قبول عرضك سيدتي، لا أريد أن أسبب لك مزيدا من الذعر والارتباك. قالت جملتها تلك، وغادرت وسط ذهولنا. فتحت الرسالة، فوجدت دعوة من مدرسة ابني للحضور العاجل. لبّيت الدعوة، ففوجئت بوجود علياء هناك.
جاءت تشكو ابني لإدارة المدرسة، فقد ضرب ابنتها ناعتا إيّاها ب"الزنجية".
-----------------
زينب بوخريص / حلق الوادي- تونس
متابعة : سهام بن حمودة
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع