ليتني مكثتأيقنت أنّي متيّم بحبّها منذ بدأت أتهيّأ لفراقها... وما إن زمجر محرّك السّيارة معلنا انطلاق السّفر و بداية النؤى حتّى تملّكتني رغبة في النّكوص والعودة إليها...لكن هيهات فقد سبقني الزّمن بمسافة لا يتسنّى لي بعدها إلاّ اجترار الذّكريات... بدأت أتألّم واجترع الحنين .اذ لا تكاد تفارقني ملامحها و أراها في كلّ ما يبلغه مرأى عيني و أصيخ لما تناغم من أصوات في ثناياها من خلال ما يبلغه مسمع أذنيّ...حتّى ملمسي مازال يتحسّس تضاريس قوامها المتعالي...ومن حين لآخر استفيق على ما يشبه صوتها أو عطرها أو بعض ملامحها ممّا يذكّرني بها...هكذا أدركت أنّي أحبّها ...مدينتي الصّغيرة الشامخة ببهاء..عين دراهم.. تتقدّم سيّارة الأجرة مبتعدة عن مدينتي، مبتعدة عن ألواني و أشجاري...أتذكّرها فأراني بين أشجارها الباسقة أستظلّها وأستمتع بألوانها فأرسمها في خاطري وعينيّ وأستحيل إلى جزء منها وأنسى...أنساني..وتأخذني الألوان المتناسقة. والأصوات المتناغمة فكأنّي بها الرّبيع دائما وكأنّها اللاّنهاية ..أسعى في الغابة زمنا فلا أملّ وتسحبني رغبة جامحة في التقدّم لأنسجم أكثر مع الخضرة في أحلى مظاهرها و مع الطّيور الّتي غرّدت وأنشدت لتشدّني وتستبقيني وتجبرني أنغام تسبيحاتها على المكوث ...ويستهويني عزف رقرقة الماء في الجداول يستعرض كلّ الألحان ، تتلاءم مع خفق قلبي، وأقف هنا و هناك من الغابة وكأنّها نسيج حكيم ورقيق من الألوان يغمر القلب والعيون..وتخرج تنهيدة طويلة جثمت على صدري لتعيدني إلى السّيارة وحديث في صخب وضجيج ...
تلك هي بلدتي ليس عليك أن تصطنع بروتوكولا أو تستعير لسانا لتجد لك فيها مكانا، يكفيك أن تكون أنت حتّى تصبح واحدا من أهلها الّذين يمثّل الفنّ جبلّة فيهم وطوع أيديهم تصنع من كلّ شيء مهما كان بسيطا تحفة فنيّة .. تشتهي المقام بينهم وترغب في مرافقتهم في جولة تنفذ معها إلى عوالمهم السّاحرة...وتسعى بدون وعي تاركا العنان لساقيك وخيالك .. لتأخذك بين ثنايا المدينة وتسحبك الرّغبة في النّهل من كلّ مجاريها والفوز بكلّ مزيّة فيها. بسيطة هي مدينتي نعم ولكن قد تستجدي من تعاليها الرّضى و القبول...بسيطة هي مدينتي لكنّها تجبرك على التّعلّق بها فتحبّها وتلجأ إليها لترتاح وتهدأ...
رشدي الخميري / جندوبة / تونس
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع