السّونْس انتردي(28)
توجّه الحاج خلف الله نحو باب السّوق البلدي " المرشي" وبيده طاجينه الفخاري فولج من الباب الكبير ذو الدفّتين، تعلوه لوحات زليجية بديعة الرّسوم ، يطغى عليها اللّون البنفسجي الداكن .لوحا ت اشهارية للاسماك بانواعها العديدة "كالبوري والتريليا والمرجان والغزال" وغيرها ولوحات للخضر من جزر و لفت و بيدنجان وفلفل وقرع وغيره إلى أشهى الغلال كخوخ "برقو البوطبقاية و تفاح سبيبة ورمان قابس وكرز الروحية " و الخيرات كثيرة...
كانت اللّوحات الزّليجية تزّين جدران السّوق عند كل مدخل حيث مازالت تعلو أبوابه الأربعة إلي جانب زخارف "البرمقلي "المتناسق مع زخرفة الأبواب الحديدية المطلية بالأخضر الفستقي .
كانت دكاكين الجزارين تحيط بالسّوق من الدّاخل فترى ذبائح الخرفان والماعز وعجول الأبقار تتدلى كاملة ومقطوعة ، ورِؤوسها مصفوفة من تحتها إلي جانب قوائمها .فما تلبث إلا أن تباع سريعا لسعرها المناسب ولذيذ طعامها مصلية أو "هرقمه" رغم ما يتطلب اعدادها من عناء "التشوشيط" والتنظيف أما حشاء الذبائح "الدّوارة "فتباع كاملة لإعداد أكلة "العصبان" مع "الكسكسي النملي" وقد تباع مجزّأة "سقط" لإعداد"الشمنكا "او "الكمونية".
اقتنى "الحاج خلف الله " ثلاثه أرطال من لحم الضّان خيّر على أن تكون "خلال ومدور"
من دكّان صديقه "بوده" وحرص كل الحرص أن لا يراه صديقه رمضان"البثباث" حتى لا يحرجه بالشّراء من عنده فبضاعته عادة ما تكون من النّوع الشارف .
لكن صديقه مولدي" طرزان" لمحه من بعيد فناداه " حاج ، يا حاح ارّاح حاجتي بيك" فأجابه " اتوه نجيك حتى ناي حاجتي بيك " لكن خلف الله يريد أن يتخلّص منه فهو لا يذبح إلا الإناث الطاعنة في السّن وهولا يريد أن يفسد عشاءه الليلة بعدما شاهده اليوم فقد تأتي "العبيدية "يوم الزّردة وغادر "المرشي" وكأنه يراها أمامه هاهو يستقبلها فاتحا ذراعيه وهي تسرع الخطوات نحوه باسمة وطبالة سيدي حمادة في زّيهم المميز " الابيض والأحمر" يعاضدهم طبالة العطايات في زيّ الجبة الخمري ذهابا وإيابا والفارس "ميزوني العياري" يعتلي فرسه الاشهب وهو يركض وسط المحفل ب غطاء كفله الأخضر و الأحمر والسّرج مطرز بالحرير الأصفر المتناسق مع لباس الفارس و تنطلق بين الحين والحين زغاريد النّسوة متحدية أنغام ا"لزكرة" فتمتزج معها في أبهى نغم.
و الأطفال يمرحون في جلبة وترى باعة الحلوى والرّمان والسّفرجل والتّمر بأنواعه ا"الكنتيشي والعليق الى الدّقلة "عرجونا و"فراك" إلى جانب باعة البخور والشّموع منتشرين حول قبّة الوليّ الصالح المطلية بالأبيض النّاصع في طهارة ونقاء يعلوها
علم أحضر وأحمر ...
و تزدحم الصّبايا بلباسهن المحتشم في الدّخول لزيارة الثُابوت والوقوف عند رأسه للتبرّك والدّعاء سرا لأنفسهن بتعجيل المكتوب و الضفر بالمحبوب . ووجوههن يعلوها الحياء وهنّ يراقبن في غفلة الأمهات الشّبان ،
فهذا ولد فلانة وذاك ولد عمتي علانة وهذا متزوج والآخر مطلق وهولاء عزّاب.
والشّبان عموما لا تهدأ لهم حركة لعلّهم يغنمون بسمة أو رفة جفن أو كلمة تثمر موعدا وعيون الأمهات ترقب وتحرس وتنبّه البنات في الذهاب والإياب ...
وتنبعث روائح البخور في كل مكان فتمتزج مع قرع الطّبول و أنغام المزامير وأصوات الباعة وضجيح الحاضرين وصراخ الأطفال وزغاريد النّساء والصلاة على النّبيء.
وترى حمدان يوزع قصاع "الكسكسي" وقطع اللّحم وهو ينادي " الصلاه على رسولا الخير ياسر الناّس الكل مش تتززى" و الأطفال من حوله "آعمي لحمه " وحمدان يرضي هذا وينهر ذاك "اّذهب ماني عطيتك "
وارتفع الصّراخ "ردّ بالك ... ردّبالك " مع صوت مكابح سيارة " راس العلم " المزعجة
"يا لطيف" وينتبه الحاج خلف الله من حُلمه مذعورا وقد تجمّد الدّم في عروقة وكاد قلبه يتوقف من هول" الفجعة"
قد كاد ت تدهسه "الكات كات" والمارّة من حوله يخفّفون الأمر عليه" اي الحمد الله... قدّر ولطف جات في الطاجين ربي يخلف "
فتسمّر "خلف الله "في مكانه ينظر الى قطع الطاجين من حوله وكيس اللّحم أرضا .
--------
يتبع
نصر العماري
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع