على حافة الموتوقف على حافة الموت و قبل أن يستسلم إلى حتفه راح يستحضر حياته الماضية..خرج من البيضة أين كان حبيس الظّلمة و العجز فهي بالكاد تسعه و كان لازال يغطّي جسمه جلده الأحمر الطّريّ .فتح عينيه على الطّبيعة من حوله فإذا هو في عشّ تحيط به الفرحة و الألوان الزّاهية مع الأشكال المختلفة..تختلف الألوان من حوله و تتعدّد الأصوات لكنّه يميّز صوت أمّه و أبيه و شكلهما من بين أصوات بقيّة المحيطين به و أشكالهم كلّما أتيا يعلمانه بقدومهما لتغذيته و احتضانه وبعث الدّفء و القوّة فيه حتّى ينمو في كنفهما.. فهما يتداولان على جلب المؤونة من الجوار أو حتّى من بعيد ويتكبّدان المشقّة لتأمين بقائه على قيد الحياة .. و تمرّ الأيّام رويدا رويدا فينمو على جسم الفرخ خلالها ريش ناعم حريريّ و تكبر لديه ملكة تدبّر أمره بنفسه شيئا فشيئا. فيبدأ بالتجرّؤ على الوقوف على حافة العشّ و يحرّك جناحيه الّذين لازالا غير قادرين على حمله و على الطّيران به و الأبوان يلازمانه و يحثّانه على المحاولة و مزيد المحاولة حتّى يطمئنّا على مصيره..و كان في تلك الفترة يستقبل والديه بأصوات يفهمان منها حاجته إليهما فيلبيّانها له. و مع تقدّم الأيّام يتنامى الرّيش على جسم ذلك الفرخ و يستعدّ للطّيران و الخروج من تحت جناحي أمّه و أبيه ليأتي بقوّته بمفرده . يتذكّر طائرنا أيضا أنّه بعد خروجه من العشّ أصبح حرّا طليقا يأكل من حيث شاء و يشرب من حيث ينعم و استقلّ عن ابويه .. صار يطارد وتقع مطاردته ..يحلّق و يغنّي كما شاء ويتنافس في ذلك مع أمثاله فيغطّون الأفق بأشكالهم و تصاميم اجنحتهم المفتوحة للفضاء تعانقه و تزيّنه ..و تتصاعد أصوات غنائهم لتزيد للأفق بهجة و بهاء.. و تذكّر كيف كانت ألوانه مدعاة لافتخاره بنفسه و سببا لحبّ النّاس للطّبيعة .. و كان وجوده فرحة للصّغار و الكبار و ذاك ما كان يزيد في فرحته و اعتداده بنفسه.. يكبر و تجمعه طبيعته وجبلّته بأنثى انجذبت لفحولته و جماله فأعطيا فراخا زيّنت الطّبيعة أكثر فأكثر .. وفعل الطّائر في المكان و الزّمان وغيّر ما استطاع بما ييسّر له و للمحيطين به الحياة. رقص و راقص الأيّام بحرّها و قرّها. فانتصر في محطّات من الحياة و خاب في أخرى لكنّه حافظ على بقائه سالما. انتظر الكثير أو حتّى القليل ممّا يساعده على يسر البقاء ليعطي أكثر . لكنّه كلّما تقدّم وجد عراقيل و مطبّات تعيقه إلى حين فيتدارك و ينهض ليواصل .ثمّ ها هو من جديد يتقيّد و يرتدّ حبيسا.. فقد ألوانه الّتي كانت تزيّنه و تبعث فيه رغبة جامحة في الحياة .. و فقد عنفوانه الّذي تجرّأ به على الصّعاب و تجرّأ به على المجهول وجعله يصنع حياة تخصّه ..و به تدرّب على عبور المسافات و قهر الأقاصي..فقد جناحيه الّذين كانا يحرّرانه من قيود المكان و يجعلانه فوق الطّوق و فوق كلّ المكابح .. وها هو في اخر الأمر على حافة الموت لأنه يريد ان يتخلّص من ظروفه الّتي قيّدته بحبال غليظة و متينة تكاد تفتّت جسده ..فقرّر ان ينهي حياته و لا يتركها للظّروف لتعبث به..ثمّ انتبه صديقنا إلى أنّ الظّروف هو ضالع في صنعها فراح يتفّقد مواطن أخطائه و إساءاته فاستخلص أنّ الخطأ ليس سببا لينهار بل هو درس تبنى عليه أفعال المستقبل و فهم أنّ السّقوط هو إساءة عندما نستسلم إليه و هو دافع للتّقدّم إذا ما عرفنا سببه . تلك القيود كانت أوهاما عاشها طائرنا لأنّ قوّاه خارت أمام بعض العقبات الحادّة و ريشه لم يفقد ألوانه الزّاهية بل اعتلته وساوس الكآبة و الاستكانة فلم يعد يراها على حقيقتها و حتّى جناحاه مازالا على حالهما الأوّل إنّما أصابها الوهن و الكسل لأنّ طائرنا نسي تحريكهما وقت اللّزوم فخال أنّه فقدهما و الحال أنّه لو تذكّر قليلا لوجد أنّه تجاوز عقبات وعقبات بوقفة جديّة و صارمة منه فيجعل القيود من حوله رخوة فيتخلّص منها و أنّه لو يصدح بصوته العالي المتحدّي سوف تخرّ أمامه ساجدة كل الحواجز الّتي كانت تعيقه وتثنيه على العيش الكريم ..نعم لقد استدرك أمره من جديد وهاهي القيود تصبح قلادات و أوسمة تزيّنه ليعود إلى فعله و صلابته و انعتاقه..
رشدي الخميري/ جندوبة / تونس
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع