الغيثكنت في بيتي لما بدأت زخّات المطر الأولى بالنّزول ..كان وقعها يثير فيّ شغفا كبيرا لرؤية المطر وهو يروي الأرض و يسقي أشجارا غرست على امتداد الطّريق المارّة أمام باب منزلي..خرجت فرأيت الأرض تغنم من المياه المتدفّقة وكأنّها ستفقدها لوقت طويل لذلك فهي تخزن زادها منها..ورأيت الشّوارع تتطهر كأنّها تنزع عنها أدرانا أو كأنّها استحت أن تستقبل الرّبيع القادم بما هي عليه فاغتنمت نزول المطر لتغتسل وتتخلّص ممّا لحقها من أوساخ ثمّ تلقي بها في قنوات الصّرف لتخفيها وكأنّ شيئا لم يكن. كان لزخّات المطر تلك وقع كبير في نفسي لأنّي تذكّرت ما يقوله منجّمو الأبراج و إن كنت لا اهتمّ لذلك..لكنّي تذكّرت برج الحوت وما يقال عن مواليده وعن حبّهم الكبير للماء ..فقد أكون منهم ..جمعت خيوط المطر بين التّناسق في الرّقص والموسيقى و قد نبشت في دواخلي فعرفت بما أكنّه لها فظلّت ملازمة لي طوال اللّيل..ظلّت تعزف ألحانا شجيّة حتّى الأرض تناغمت معها فاستوعبت كلّ ما جادت به قريحة المطر عليها لتوزّعه عبر تربتها على جذورها وكلّ ما أحاط بها...إلى هذا الحدّ كنت سعيدا بمشاهدة المطر وهو ينزل برفق وكانت زخّاته تداعب ما تلامس من الأشجار والتّربة وحتّى الشّارع المبلّط .فجأة انتبهت إلى ماجلبته سيول المطر. فمع ارتفاع منسوب السّيول وارتفاع غزارة الأمطار بدأت السّيول تجرف ما تمرّ به في الشّارع وقد تكون قويّة إلى حدّ أنّها تأتي ببعض ما في الحاويّات من فضلات...ما رأيته اللّيلة هو عبارة عن بعض الأوراق وعلب السّجائر الفارغة و يندر أن تطفو على صفحة السّيل علبة حليب أو علبة قشطة فارغة أو بعض قشور البيض المستهلكة. في حين كنّا نرى في أوقات خلت أنّ الشّارع يمتلئ بالفضلات من كلّ الأنواع ليشكّل فسيفساء من الفضلات لكنّه كان يخبرك أنّ النّاس تستهلك ولها القدرة على أن تبتاع ما يمكن اأن تعيش به و أنّ استهلاكها كثير ومتنوّع و مختلف...غزارة الأمطار كشفت المستور فعرّت على بطون النّاس وجيوبها ورسمت لوحة دراميّة لواقعهم .. وأكثر ما أفزعني في هذا المشهد علم بلادي وهو يطفو مع ما حملته مياه السّيل .. هرعت إليه وكنت على بعد مسافة منه و انتشلته لأحفظ احترامه وهيبته... ولم أسمح بسقوطه في قناة صرف ..فعلا كأنّي حيال مسرحية درامية يتغيّر فيها لون الضّوء والموسيقى وتتغيّر ملامح الشّخصيات لتظهر وتجسّد الخوف والحزن...ويتغيّر الدّيكور فينسحب ذلك على الأحداث والأقوال ونقرأ من ذلك النّهاية إن لم تكن صريحة...قد رأيت ما يثير القلق و رأيت ما يثير الفزع.. مع ذلك أعرف أنّ نهاية المشهد الأخير ستكون مخالفة لما قد تلمّح له الأحداث ..أعرف أنّ المطر غيث والغيث نفع مهما قسا سيله. أعرف أيضا أن البطون والجيوب ستمتلئ مهما استمرّ الحيف ...والنّاس من بني بلدي لن يتركوا العلم سوف يحملونه عاليا ويجعلونه مرفرفا وسيظلّ كذلك.. رشدي الخميري / جندوبة / تونس
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع