دماء على الرّصيف
قد أكون فارقت حياتكم و لن يجمعنا بعد اليوم مكان ولا زمان فيها . قد لا ولن يؤثّر فيكم فراقي رغم أنّه آلمني . حتّى أمّي لن تنتظر مستقبلا أن تراني كما حلمت بي دائما دكتورا يداوي الجرحى ويبرئ المرضى فتشير بإصبعها "هذا ابن بطني" و تزغرد فرحا لأنّي خدمت البلد . لن تراني بعد اليوم ولا حتّى متسكّعا في أزقّة غزّة أحمل غصن زيتون بيدي وعلى كتفي نعشي يلازمني.. مات حلم أمّي ولكنّي سألتقيها وستفرح بي لأنّي كتبت اسمي واسم عائلتي على سجلاّت التّاريخ. وربّما لم تستفزّكم صورتي فتابعتم سيركم واستمرّ بيعكم وشراؤكم في الأسواق رغم صوت الموت والجوع الّذي يحوّطكم. إذا فاعلموا أنّها بداية النّهاية في معاقلكم. بالنّسبة لي سأبقى ولن أندثر.. سأبقى وعيني ترقبكم وتتابع سيل دمي على أرصفتكم وأنتم تتحاشونه وتختبؤون وراء ضحكاتكم المصطنعة. سوف تروني في أحلامكم وسأسألكم عن حيّي وأصحابي وعائلتي فأوقض مضجعكم . سوف تجلسون إلى طاولات طعامكم لتأكلوا وتشربوا ولكنّكم ستفزعون عندما تجدون صورتي على كلّ لقمة تضعونها في أفواهكم وسوف تجدون أنّ الماء الّذي وضعتموه في كؤوسكم أخذ لون دمي فتهرعون إلى غرفكم لتتدثّروا وتضعون رؤوسكم الّتي لا تمتلكونها تحت أغطية العار . دمي لن يجفّ طالما القدس موجودة . سيستمرّ السّيل يغذّي كلّ حفنة تراب على أرضي و أرضكم. سيستمرّ وابل الحجارة يغطّي سماء الحبيبة ليحمي من بقي بعدي. سيعانق دمي دماء أخرى نزفت من أجل الحياة فتنبت حجارة و أخرى وتعلو زغاريد أمّهاتنا لتصل السّماء فتتصدّع حصون خوفكم المتهرّئة وستقع على رؤوسكم عاجلا أم آجلا. علمت منذ خروجي إلى الدّنيا أنّ عدوّي يهابني و يخشى أن يراني أكبر فأكسر شوكته لذلك أفهم لماذا يريق دمي ثمّ يرقص فوقه فرحا لأنّه تخلّص من معضلة. لكنّي لم أفهم شيئا آخر فأتساءل لماذا يراق دمي على مرأى ومسمع من بني تربتي وهم من المفروض حماتنا و قوّادنا فيتنكّرون لي وتتواصل حياتهم وكأنّ شيئا لم يحدث بل قد يفرحون بزوال مصدر شغب لهم ولأحبّائهم ؟ لماذا تموت عندنا الحياة قبل أن ترى النّور ولا تتصبّب قطرة عرق واحدة من جباه " شيوخنا"؟ في حين ترفع الشّعارات وتعلو أصوات التّنديد والتّهديد حالما تطلق رصاصة واحدة خارج الدّيار؟ لماذا يعلو صوت الغريب المعتدي بحناجر من ديارنا و تخمد صرخة المظلوم وأنين المجروح في بيتنا بأيادي و عصيّ من صنعننا ؟ ...تركت فيكم دمي همزة وصل بيني وبينكم ليعلّمكم أنّ الحياة إمّا كريمة شامخة أو دونها الموت الشّريف. وسيظلّ موتي عين يروي قصصا وحكايات ويبلّغ عنّي أنّي متّ متألّما ولكنّ الألم لم يكن ألم الجروح وطلقات النّار بل ألم الخذلان والصّمت..
-------------
رشدي الخميري/ جندوبة / تونس
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع