من رواية "جبل التيه"
خرج خالد قاصدًا غرفته، فوجد السيدة الأم مع مريم بالممر، نظر علم إلى مريم، إلى شعرها الملقى على ظهرها كستارة سوداء خلف نحرها الطويل، غطت تعاريج جسدها الشهي، لم يلحظا وجوده خلفهما، وقف خالد على باب غرفته يتبعهما بعينيه حتى غابتا عن بصره، دخل غرفته ملقيا بنفسه في سريره، يحاول قدر جهده أن يرتب الفوضى التي بداخله، أمسك بهاتفه ينظر لصورة مريم، يتلمس وجهها المطل على الشاشة بأطراف أنامله ويهمس ساخرا: هل كان لا بد لكي أحظى بكِ أن تعودي لي في جثة محفوظة منذ بداية عصر النهضة؟
وأردف هامسا إلى الصورة على شاشة الهاتف: لكن أتعلمين؟ الشيء الجيد أنك عدت، نعم عدت في مريم أخرى من بعد زماني ومكاني آخر، ومن ثقافة وفكر آخر، لكنك لا زلت مريم بكل ما كنت عليه من تفرد، لا زلت زهرة التوليب نفسها التي تركتها هناك أسفل شجرة توت على طريق زراعي لقرية ربما تجاهلوا ذكرها على الخريطة أو ذكروها على استحياء، من يدري؟! فلم أحاول معرفة ذلك يوما.
أغلق الهاتف وغط في نوم عميق، حتى شعر بوقع أصابع على وجهه وأطراف شعر تداعب بعشوائية شفتيه ومسام وجهه، فتح عينيه فإذا بمريم تجلس أمامه تتأمله بشوق وحذر، نظرت له بعيون متألقة وهمست: هل أيقظتك؟
ضحك ساخرًا: يا لك من حمقاء! افتقدتك كثيرا، كنت أفكر فيك قبل قليل، أتحدث
إليك.. إن الأيام هنا كالأيام هناك، صعب أن تمر دونك، غير أن الأيام هنا أشبه بفيلم رعب، طوال الوقت جسدك تحت تأثير تدفق غزير للإدرينالين!
همست: أنا لا أذكرك، لا أذكر أني رأيتك سابقا، لكني أشعر برغبة قوية في قربك، أشعر بك في قلبي، في جزء من روحي، لكني كلما اجتهدت في البحث عنك بذاكرتي لا أجدك أبدا، فذاكرتي مكتظة بالكثير من الأحداث والصور التي تندفع إلى رأسي في فوضى مدمرة كلما حاولت استدعاءها، صور ذهنية واسعة للغحرية الإسبانية التي التقيتها بمدنته فلورنسيا، والتي أخبرتني عنك وعن النبؤة، والظل الأسود الذي أخذني لمملكة الظلام، صور ذهنية مدعومة بنقاشات كبيرة سادت المجتمع الإيطالي حول أعمال مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي، حوارات مجتمعية كبيرة حول الموت الأسود، والرؤية السوداوية لدانتي إليغيري في رائعته الكوميديا الإلهية.
لم يكن خالد يستوعب فكرة أن تجلس مريم بقربه لتحدثه عن الفن الإيطالي بعصر النهضة والأثر العظيم لرائعة دانتي الشعرية في رؤيته للعلاقة المعقدة بين الإنسان وخطاياه؛ فمريم لم تكن تعلم أصلا بوجود فنانين كدافنشي ومايكل أنجلو في يوم من الأيام، وكذلك أقصى علاقة لها بالأدب لن تتخطى أبدا نص شعري لأحمد شوقي حفظته في إحدى سنواتها الدراسية أو رواية لنجيب محفوظ وقعت عليها عيناها بالصدفة عند بائع الكتب الذي يفترش الرصيف أمام سور الجامعة وهي تشتري مشبك شعر من بائع آخر بجانبه ولم تحرك فيها ساكنًا.
لم يستطع خالد أن يخفي انبهاره وإعجابه بالشخصية الجديدة التي أطلت عليه بها مريم في ثوبها الجديد والأنيق جدا، كان خالد ينظر لها للمرة الأولى نظرة منزهة عن الغريزة، نظرة ترتقي بها داخله إلى مكان آخر كأنه يتحدث معها للمرة الأولى، يراها للمرة الأولى، يحبها للمرة الأولى، انصرفت مريم مع قبلة خفيفة على جبين خالد بعد حديث طويل معه عما يعج برأسها من ذكريات.
خرجت مريم من بين يديه كابحة جماح رغبتها داخلها، منشدة بيتًا من أنشودة الجحيم الأولى الغابة المظلمة لدانتي:
ثم تلته ذئبة كانت تبدو في ضمورها
محملة بجميع الشهوات
جاعلة الكثيرين يغطون في كل بؤس
ابتسم خالد للعقل الذي سكن جمجمة مريم حديثًا، فقد فهم مغزى البيت الذي رددته وهي خارجة للتو، والذي رمز فيه دانتي للشهوات التي هي سبب كل بؤس يحل بالإنسان إن اتبعها بـ»الذئبة»، محاولة أن تذكر نفسها التي ضاقت بشهوتها تجاهه بمصيرها البائس إن انساقت خلفها.. ثم أخذ يضحك ساخرًا أو ربما مذهولا حتى تعالى صوت ضحكاته ودمعت عيناه، وغمغم: مريم ودانتي؟! هذا أغرب ما حدث، أغرب حتى من وجودي وإياها في جبل التيه نفسه.
غط بعدها في نوم عميق، حتى أيقظه صوت علم الذي بدا في حال أفضل مما تركه عليه البارحة، تبسم خالد في وجه علم، وقال: كيف أصبحت يا علم؟
أجابه علم ببعض الجدية المفتعلة ليختبئ خلفها فيبدو لخالد أن الأمور داخله استقرت وأصبح كل شيء بخير..
ضحك خالد وغمغم: أنت أيضا يا علم؟! وأردف: جميل أن يبدو الجميع بكل هذا التعقل دون سابق إنذار، مريم بكل نزقها وبساطتها الفكرية واضمحلالها الثقافي تسكن جسد سيدة أرستقراطية مثقفة قادمة من بدايات عصر النهضة وتخاطبني برمزية دانتي عن الخطايا، وأنت ما إن أتى عليك الصباح حتى تحولت من مهووس بي إلى رجل جاد للغاية
وأردف هامسا إلى الصورة على شاشة الهاتف: لكن أتعلمين؟ الشيء الجيد أنك عدت، نعم عدت في مريم أخرى من بعد زماني ومكاني آخر، ومن ثقافة وفكر آخر، لكنك لا زلت مريم بكل ما كنت عليه من تفرد، لا زلت زهرة التوليب نفسها التي تركتها هناك أسفل شجرة توت على طريق زراعي لقرية ربما تجاهلوا ذكرها على الخريطة أو ذكروها على استحياء، من يدري؟! فلم أحاول معرفة ذلك يوما.
أغلق الهاتف وغط في نوم عميق، حتى شعر بوقع أصابع على وجهه وأطراف شعر تداعب بعشوائية شفتيه ومسام وجهه، فتح عينيه فإذا بمريم تجلس أمامه تتأمله بشوق وحذر، نظرت له بعيون متألقة وهمست: هل أيقظتك؟
ضحك ساخرًا: يا لك من حمقاء! افتقدتك كثيرا، كنت أفكر فيك قبل قليل، أتحدث
إليك.. إن الأيام هنا كالأيام هناك، صعب أن تمر دونك، غير أن الأيام هنا أشبه بفيلم رعب، طوال الوقت جسدك تحت تأثير تدفق غزير للإدرينالين!
همست: أنا لا أذكرك، لا أذكر أني رأيتك سابقا، لكني أشعر برغبة قوية في قربك، أشعر بك في قلبي، في جزء من روحي، لكني كلما اجتهدت في البحث عنك بذاكرتي لا أجدك أبدا، فذاكرتي مكتظة بالكثير من الأحداث والصور التي تندفع إلى رأسي في فوضى مدمرة كلما حاولت استدعاءها، صور ذهنية واسعة للغحرية الإسبانية التي التقيتها بمدنته فلورنسيا، والتي أخبرتني عنك وعن النبؤة، والظل الأسود الذي أخذني لمملكة الظلام، صور ذهنية مدعومة بنقاشات كبيرة سادت المجتمع الإيطالي حول أعمال مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي، حوارات مجتمعية كبيرة حول الموت الأسود، والرؤية السوداوية لدانتي إليغيري في رائعته الكوميديا الإلهية.
لم يكن خالد يستوعب فكرة أن تجلس مريم بقربه لتحدثه عن الفن الإيطالي بعصر النهضة والأثر العظيم لرائعة دانتي الشعرية في رؤيته للعلاقة المعقدة بين الإنسان وخطاياه؛ فمريم لم تكن تعلم أصلا بوجود فنانين كدافنشي ومايكل أنجلو في يوم من الأيام، وكذلك أقصى علاقة لها بالأدب لن تتخطى أبدا نص شعري لأحمد شوقي حفظته في إحدى سنواتها الدراسية أو رواية لنجيب محفوظ وقعت عليها عيناها بالصدفة عند بائع الكتب الذي يفترش الرصيف أمام سور الجامعة وهي تشتري مشبك شعر من بائع آخر بجانبه ولم تحرك فيها ساكنًا.
لم يستطع خالد أن يخفي انبهاره وإعجابه بالشخصية الجديدة التي أطلت عليه بها مريم في ثوبها الجديد والأنيق جدا، كان خالد ينظر لها للمرة الأولى نظرة منزهة عن الغريزة، نظرة ترتقي بها داخله إلى مكان آخر كأنه يتحدث معها للمرة الأولى، يراها للمرة الأولى، يحبها للمرة الأولى، انصرفت مريم مع قبلة خفيفة على جبين خالد بعد حديث طويل معه عما يعج برأسها من ذكريات.
خرجت مريم من بين يديه كابحة جماح رغبتها داخلها، منشدة بيتًا من أنشودة الجحيم الأولى الغابة المظلمة لدانتي:
ثم تلته ذئبة كانت تبدو في ضمورها
محملة بجميع الشهوات
جاعلة الكثيرين يغطون في كل بؤس
ابتسم خالد للعقل الذي سكن جمجمة مريم حديثًا، فقد فهم مغزى البيت الذي رددته وهي خارجة للتو، والذي رمز فيه دانتي للشهوات التي هي سبب كل بؤس يحل بالإنسان إن اتبعها بـ»الذئبة»، محاولة أن تذكر نفسها التي ضاقت بشهوتها تجاهه بمصيرها البائس إن انساقت خلفها.. ثم أخذ يضحك ساخرًا أو ربما مذهولا حتى تعالى صوت ضحكاته ودمعت عيناه، وغمغم: مريم ودانتي؟! هذا أغرب ما حدث، أغرب حتى من وجودي وإياها في جبل التيه نفسه.
غط بعدها في نوم عميق، حتى أيقظه صوت علم الذي بدا في حال أفضل مما تركه عليه البارحة، تبسم خالد في وجه علم، وقال: كيف أصبحت يا علم؟
أجابه علم ببعض الجدية المفتعلة ليختبئ خلفها فيبدو لخالد أن الأمور داخله استقرت وأصبح كل شيء بخير..
ضحك خالد وغمغم: أنت أيضا يا علم؟! وأردف: جميل أن يبدو الجميع بكل هذا التعقل دون سابق إنذار، مريم بكل نزقها وبساطتها الفكرية واضمحلالها الثقافي تسكن جسد سيدة أرستقراطية مثقفة قادمة من بدايات عصر النهضة وتخاطبني برمزية دانتي عن الخطايا، وأنت ما إن أتى عليك الصباح حتى تحولت من مهووس بي إلى رجل جاد للغاية
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع