قاد سيّارته طويلا حتّى أرساها على طريق مرتفع يتسنّم الطّرق في منأى عن السّيل...انطلق نحو تجويف داخل الصّخور...هاهو يتنسمّ روائح المطر تداعب أنفه تمازجها أنفاس الصّنوبر و الإكليل تبشّر بدفق غزير وشآبيب سخيّة...
طفقت القطرات تتسابق، فتنداح موجاتها الدائريّة المتذبذبة على وجه البركة غمّازات باسمة...ويشتد وقعها ،فتتدافع الفقاقيع في انسياب سريع...يومض مبسم البرق، ويقهقه الرّعد فيشتدّ العزف الشّجيّ...الرّيح تراقص قطرات المطر، وتلقي بها على وجهه عابثة..خرج من مكمنه..نظر يمنة ويسرة..الطّريق وحيد مثله..خال مثله...لا عين ترقب في فضول لحظة انفلاته العذب...نزع حذاءه وجواربه ،وطفق يخوض في السّيول الجارفة...وأرجله الّتي اعتادت الرّفاه تطأ أحجارا وحصى في مجرى الوادي...
.ووقف يمهل زخاّتها العنيفة وهي تقبّل رأسه و كتفيه كأمّ رؤوم... خالها تطرق قلبه فتنهمر السّيول هادرة مندفعة..يغمض عينيه ويخالها تتدافع في دخيلته فيغتسل من أدرانه وينتشي...لكم غافل أباه وانطلق مع الصّبية يلعب تحت المطر .يعرض إليها وجهه ويفتح فاه فيتذوّق قطراتها عذبة نقيّة...ويخيّل إليه أنّه شجرة تمتص رحيق السّماء...مازال يذكر وقفته تحت مزراب المسجد المنهمر... ومازال يتذوّق طعم قطرات المطر ممزوجة برائحة الطّيب المنبعثة من بخور بيت الصّلاة...
ركض غير مبال بقوة السّيل..وضحك حتّى كاد ينزلق لولا أن تمسّك بجذع شجرة تحدتّ في عناد كرور السيّول ومرور الأيّام...تأملّها... ما أجملها تضرب بجذورها عميقا راسخة متشبّثة بالصّخر ! ما أعظمها تتشامخ برأسها في السّماء !..
من قال إنّ الأشجار لا تسافر ؟؟..هاهي تسافر عميقا في الأرض جذورا وشرايين ،وفي السّماء غصونا و فروعا...
ما لبث أن صحا الأفق من سكرته...فتناهت إلى مسامعه أصوات القرويّين يجوبون مزارعهم ضاحكين..وتعالت أصوات صبية يلعبون...هاهو يراهم يتسابقون إلى النّهر يلقون فيه زوارقهم الورقيّة...خيّل إليه أنّ قلبه زورق قد اغتسل بالغيث فانطلق جذلا هفّافا يراقصه السّيل كأن لم ير كدرا قطّ...
وما لبث أن تعالى صوت أذان المغرب من الصّومعة البيضاء المعلّقة في أعلى الجبل يتردّد صداه بين الجبال مهيبا نديّا..فقام يلبّي نداءه...
-----------------------
متابعة : سهام بن حمودة
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع