روح الكِتابة من روحِ القِراءة
القّاصّة نورا الورتاني( القيروان-تونس)
كنت مقتنعة دائما بأن المواطن الصالح قد يتحوّل في أي لحظة من بريء إلى مذنب ... لحظة واحدة قد تغيّر الأوضاع في رفّة عين ...قد يكون خطأ ما ... أو كلمة ... أو خطوة على غير هدى ...
جاهدت طوال حياتي للحفاظ على حريتي ... دخلت عالم السياسة منذ بداية شبابي ، عرفت العمل السرّي والعمل النقابي دافعت عن حقوق الإنسان ... ناضلت من أجل حريتي بكل الطرق فاتّسع المرح لأحلامي ، صعدت الخشبة مرات ومرّات في " شمس أوسّو" مع عفيف اللّقاني وغيرها فاتسعت عيناي وضاق العالم ...ربحت جولات وجولات وخسرت أخرى واكتفيت في الأخير بقلمي و حريتي ...حرية الفكر والتّنقل.
أيام الدارسة كنت حبيسة المبنى حرة التحليق ... خرجت إلى العمل فاتسع الطريق وضاق الفضاء في سنوات القلم الواحد... كنت أمشي ...أمشي ... أمشي دون كلل يتوالد الإسفلت تحت قدميّ، فيمتصّ غضبي وحزني وانهزاماتي وتُشرع أمامي مجازات اللّغة ... كم نصوصا تخيلتها في شوارع لافيات ومسارب البلفدير .... كم قصصا ألّفتها بالمسلك الصحي بالمنزه... كم نقاشات خضتها مع أصدقائي، كم اجتماعات عقدناها في ″جمعية أقلام الأدبية ″و″ النساء قادمات ″ و ″الصالون الأدبي″ بمقاهي شارع الولايات المتّحدة وشارع الحبيب بورقيبة ودار الثقافة ابن رشيق . كم مدنا زرت ومهرجانات قرأت وعواصم عالمية وطأت...بقيت كلّها في الصّور والخيال وأنا الآن أجدّف وحدي...
ما أجمل السير بشارع محمد الخامس حين تتملكني فكرة تتكوّر في دماغي فتحوّله الى طنين يصمّ أذنيّ ... صوت يخترقني فأهرب إلى النّاس ... إلى "الوَنَسِ" ...إلى هدير السيارات وصفارة الشرطي بمفترق الطرقات فتختلط الأصوات فأشعر وكأنها تدافع عنّي تفّتكني من طنين أذنيّ، تغيّر وجهة الصّوت الملتوي برأسي كلولب ينخر الجمجمة ... تحلّ عقده ... تجذب رأس الأفعى وتلقي بها وسط الزحام فيمتصّها الطريق ويبسط أمامي مفرشا مخمليّا يداعب قدمي ويمسد عضلاتي فأغدو خفيفة وقد نفضت ما علق بي من هموم كأنّي في خدر... ينتهي بي المطاف الى ″المونوبري ″ أو ″شمبيون ″ أضيع بين بضائعه وأتزوّد وأنسى ببخار المطبخ لُهاث صدري. هذه علاقتي بالفضاء الخارجي ، متجدّدة تبعث فيّ طاقة وتغسل أدراني كـ"امْنى" وهي تغسل أدران البحر في "ليلةً انتشى...".
كنت دائما أردّد قول أمي ″الله يفكنا من دعاوى الحق والباطل و″ ربي يبعد علينا اللحظة اللعينة″ وخوفي من اللّحظة اللّعينة كبير لا لقابليتي لارتكاب جريمة على قول ″لمبروزو″ وإنما لخوفي من سلب حريتي ...حرية الحقّ في التنقل والخوف من الحبس في مكان واحد...
عدت إلى القيروان مسقط رأسي في اليوم الأول للعطلة على غير عادتي لمراوغة أمي حتى أستطيع الانفلات من المدينة في الأسبوع الثاني للمشاركة في مشاريع ثقافية بالحاضرة، فإذا بمارد ضخم يسدّ بوابات المدينة ...يدفعنا ببطنه المنتفخ إلى بيوتنا ويحكم الترابيس...إنّه الحجر الصحيّ ...حمدت الله لأنني مع العائلة أستطيع أن أهتمّ بوالدتي ... أعقم الأبواب والجدران والعلب والأكياس ... و أمنعها من الخروج إلى فناء البيت حفاظا على صحتها كمواطن صالح يطبّق تعليمات وزارة الصحة . وللتأقلم مع الوضعية الجديدة لذت بالقراءة سبيلا فحلّقت مع فاطمة بن محمود في″ الملائكة لا تطير ″ وغربلت التراب مع محمد الخموسي الحناشي في ″ عندما يغربل التراب″ علي أعثر على اللؤلؤة الفريدة فما كان سوى ″الثلج الحار″ ″ليوري بونداريف″ الذي يحكى المأثرة المنقطعة النظير التي أبداها الجنود السوفييت أيام معركة ستالينغراد. وتآمرت مع فرج لحوار في ″المؤامرة ″ ثم هربت من Bonjour tristesse لأحافظ على موجاتي الإيجابية فقفزت أماميFrançoise Sagan ولوّحت لي بكتاب les Violons Parfois... . قلت هي الموسيقى مخرجي وملاذي فإذا بالمسرحية صراع حول إرث استبيحت فيه كل المقالب والحيل استعدت قلمي ورثيت ابن خالتي كمال الذي أبى إلا أن يسبقنا في سفره الأخير ويحظى بجنازة محترمة ... و حين استبد بي الشوق شاكست ″غابريال غارسيا ماركيز″ الذي أنقذ بطليه من الوباء في ″الحب في زمن الكوليرا″ وجعل المحبين في سفينة تبحر إلى ما لا نهاية حيث ينعمان بالوصال بينما نتلظّى نحن شوقا لأحبتنا في هذا السجن الطوعي دون خلاص ...تتالت الأيام وبدأ الملل يتسرّب إلى نفسي وتبلدت أفكاري .فرميت بالقلم جانبا وأخذت أدور في فناء البيت ... جميل أن تقطن منزلا داخل المدينة العتيقة حيث لا نوافذ تطل على الشارع ولا جدار يشي بحركات الجوار ... باب وعالم خلفي ...بئر وماجل واكتفاء ذاتي ولا حاجة إلى Sonede ، رفاهية لا يشعر بها إلا من ذاق معاناة المساكن الجماعية أين يشعر الفرد بالعراء التّام كما في قصـتي" الأبنية العاريّة"... نوافذ تكشف كل حركاتك وجدران تشف عن حياتك بكل تفاصيلها ... هو ذا منزلنا العائلي ... نجتمع فيه كل يوم ليعزف يونس ابن أخي الكمان ويغنّي الطاهر بشير. بمنزلنا ناي وعود و مغنّون وشعراء ومدائح وأذكار نقضي ردحا من الليل طربا ... ورشة كتابة وتلحين .... كلنا مبدعون وكلنا جمهور، خلقنا من الوحشة بهجة علّها ترفع مناعتنا لمواجهة هذا المارد المرئي في جثث الموتى، الصغير في حجمه ، القوي في فعله ، السريع في حركته ...
حتى الطرب أصبح روتينيا يبعث الملل مادام محبوسا بين جدران منزلنا الفسيح ولا يجنّح خارجا.... الدفء العائلي نعمة وقوّة ولكنه حدوده ضيقة . والإنسان كائن منفتح يحتاج إلى الاختلاف ليجدّد خلاياه ويشذّب أفكاره ويورق أغصانه...
عدت إلى الورق مسافرة عبر العوالم والحضارات بحثا عن الأمل مع André Malraux في L’Espoir فاستوقفتني هذه الجملة-النصّ: Voici donc ce qui l’a si souvent obsédé l’instant ou un homme sait qu’il va mourir sans pouvoir se défendre.
أنحن في هذه الحالة ؟ أترانا ننتظر الموت ؟ أم هو واقف أمام أبوابنا ؟ أو لعلّه يتلصّص من ثقوب الجدران ليتسرّب الى صدورنا كتلصص الغريب على حرملك أعراسنا في القيروان فيُعاقب بالتّجدير كما في عنوان قصتي" التّجدير". هذا الكائن الغريب المجهريّ الذي قرأت عنه طفلة مغرمة بإصدار شهري عنوانه ″المجلة″ يرد من ألمانيا ينشر مقالات حول القنبلة الجورثومية ... كنت أنبّه وكأني قادرة على إيقاف ذلك فأقول ...″ يا أمي إنهم يصنعون قنبلة بها جرثوم سيقضي على البشر ويبقي على الحجر...″ تجيبني بإيمانها العميق ... ″اللطف ما تسمعشي هالكلام ...ربي هو الكل ″.
جالت في ذهني أن أنصب للكوفيد التاسع عشر شركا ، وما أكثرهن ناصبات الشّباك هذه الأيّام عبر الفايس، وهو المتعوّد أن يتلصّص علينا من أعين المقرونة و الطماطم والخضر والغلال التي تقود عادل إلى فناء الدّار راغما و كأنّه يحمل متفجّرات...قررت أن أمسك به متلبّسا وأقوم بنفسي بتجديره....
عدت إلى ربّي متضرّعة : ربيّ ألا تنقذنا من هذا البلاء أم أنّك تحبّنا إلى درجة تسليط هذا العقاب علينا على قول ....Henri Troyat في كتابه " Le Jugement de Dieu " إذا لم يعاقبنا الربّ قد نسينا Seigneur, si vous n’aviez pas puni Alexandre Mirette – comme il le méritait…c’est que vous avez omis de le punir, il n’a pas bénéficié de votre grâce,mais de votre oubli.
لبست كفني من كمامة و قفازات و شال كبير يغطي الرأس و الكتفين و لو وجدت ″الحائك″ لتلحفت به حتى لا تظهر إلاّ عيناي خلف نظارات الشّمس و بالتالي أضمن حمايتي ... كنت أتعثر أرمي قدميّ دون تناسق و كأنني أتعلم المشي من جديد ... لم يتسرّب الشارع إليّ منذ شهر ... أعتقد أنّني نسيت المشي فتصلبت عضلاتي و مفاصلي وتكلّست. ماذا يريد منا هذا الفيروس ؟ أيريد تكسيحنا ؟ المدينة مختلفة خالية لا يسمع فيها إلاّ صوت الآذان و القرآن ...كنت وحدي في الزقاق وعند المنعرج رأيت هيكلا مقبلا في الاتجاه المعاكس من الزقاق الضيّق ... شابا في مقتبل العمر... أحكمت الشال فوق الكمامة خوفا من العدوى .... هذا الآخر الذي كان ونَسا وحياة غدا غريبا خطرا ... اقتربت أكثر من الجدار لتتّسع المسافة بيننا وحبست أنفاسي خوفا من أن يتسرّب الفيروس مع الأكسيجين ...اقترب الشاب خطوات و اتضحت الرؤيا... كان أحمد ابن أخي الذي لا يفارقني طوال إقامتي بمنزلنا ..″ ما لك عمتي ... أأصبت بدوار؟....″مرارة بطعم العلقم ... كيف أخاف لحمي ودمي في مخاتلة لتموجات الضوء !؟....إلى متى ستبقى المدينة تخضع لشطحات السيدة ″ك″ على قول البشير الجلجلي وقول ألبار كامو في كتابه « La ville serait livrée aux caprices de la maladie » : « la peste »
وبعد كل هذا الألم النفسيّ والجسدي يُطلب منا أن نبقى إيجابين لرفع المناعة.
سألت Jean Paul Sartre في كتابه La Nausée فأجاب « Il est rare qu’un homme seul ait envie de rire ». .
ولكن جدّي محمّد المقداد الورتاني نصحني بـ" البرنس" واستغرب أنني لم أشر إليه وكتابه " البرنس في باريز" في اعترافات الكورونا وأصدقائي الكتّاب...فأجبته بأنّ مجموعتي القصصية " ليلة انتشى فيها القمر..." غصّت به ومجموعتي " خطأ حنبعل" يحتلّ فيها رحلة أخطاء رجال العالم...فماذا تريد جدّي؟ ألم تورّثني القلم فعشت أجري وراءه ... لهاثا لا ينتهي...ماذا بعدُ وحياتنا غدت مقامرة كبرى في ملعب حددته السيدة "ك" كعليسة بجلد ثورها؟
وبين الأخذ والردّ مع جدّي وخطتي للإيقاع بالكوفيد الذي يتحوّل إلى السيدة "ك" إمعانا في التّخفّي ، وجدتني أغادر تونس واتّجه إلى المغرب باحثة عن رسومات الفنان الشاعر " محمد منير" علّه يطلعنا على عوائد المغرب في شهر رمضان وأيّام الحجر الصحّي...وربّما يوقع بالفيروس بريشة الرّسّام فيجدّره في لوحاته...
جاهدت طوال حياتي للحفاظ على حريتي ... دخلت عالم السياسة منذ بداية شبابي ، عرفت العمل السرّي والعمل النقابي دافعت عن حقوق الإنسان ... ناضلت من أجل حريتي بكل الطرق فاتّسع المرح لأحلامي ، صعدت الخشبة مرات ومرّات في " شمس أوسّو" مع عفيف اللّقاني وغيرها فاتسعت عيناي وضاق العالم ...ربحت جولات وجولات وخسرت أخرى واكتفيت في الأخير بقلمي و حريتي ...حرية الفكر والتّنقل.
أيام الدارسة كنت حبيسة المبنى حرة التحليق ... خرجت إلى العمل فاتسع الطريق وضاق الفضاء في سنوات القلم الواحد... كنت أمشي ...أمشي ... أمشي دون كلل يتوالد الإسفلت تحت قدميّ، فيمتصّ غضبي وحزني وانهزاماتي وتُشرع أمامي مجازات اللّغة ... كم نصوصا تخيلتها في شوارع لافيات ومسارب البلفدير .... كم قصصا ألّفتها بالمسلك الصحي بالمنزه... كم نقاشات خضتها مع أصدقائي، كم اجتماعات عقدناها في ″جمعية أقلام الأدبية ″و″ النساء قادمات ″ و ″الصالون الأدبي″ بمقاهي شارع الولايات المتّحدة وشارع الحبيب بورقيبة ودار الثقافة ابن رشيق . كم مدنا زرت ومهرجانات قرأت وعواصم عالمية وطأت...بقيت كلّها في الصّور والخيال وأنا الآن أجدّف وحدي...
ما أجمل السير بشارع محمد الخامس حين تتملكني فكرة تتكوّر في دماغي فتحوّله الى طنين يصمّ أذنيّ ... صوت يخترقني فأهرب إلى النّاس ... إلى "الوَنَسِ" ...إلى هدير السيارات وصفارة الشرطي بمفترق الطرقات فتختلط الأصوات فأشعر وكأنها تدافع عنّي تفّتكني من طنين أذنيّ، تغيّر وجهة الصّوت الملتوي برأسي كلولب ينخر الجمجمة ... تحلّ عقده ... تجذب رأس الأفعى وتلقي بها وسط الزحام فيمتصّها الطريق ويبسط أمامي مفرشا مخمليّا يداعب قدمي ويمسد عضلاتي فأغدو خفيفة وقد نفضت ما علق بي من هموم كأنّي في خدر... ينتهي بي المطاف الى ″المونوبري ″ أو ″شمبيون ″ أضيع بين بضائعه وأتزوّد وأنسى ببخار المطبخ لُهاث صدري. هذه علاقتي بالفضاء الخارجي ، متجدّدة تبعث فيّ طاقة وتغسل أدراني كـ"امْنى" وهي تغسل أدران البحر في "ليلةً انتشى...".
كنت دائما أردّد قول أمي ″الله يفكنا من دعاوى الحق والباطل و″ ربي يبعد علينا اللحظة اللعينة″ وخوفي من اللّحظة اللّعينة كبير لا لقابليتي لارتكاب جريمة على قول ″لمبروزو″ وإنما لخوفي من سلب حريتي ...حرية الحقّ في التنقل والخوف من الحبس في مكان واحد...
عدت إلى القيروان مسقط رأسي في اليوم الأول للعطلة على غير عادتي لمراوغة أمي حتى أستطيع الانفلات من المدينة في الأسبوع الثاني للمشاركة في مشاريع ثقافية بالحاضرة، فإذا بمارد ضخم يسدّ بوابات المدينة ...يدفعنا ببطنه المنتفخ إلى بيوتنا ويحكم الترابيس...إنّه الحجر الصحيّ ...حمدت الله لأنني مع العائلة أستطيع أن أهتمّ بوالدتي ... أعقم الأبواب والجدران والعلب والأكياس ... و أمنعها من الخروج إلى فناء البيت حفاظا على صحتها كمواطن صالح يطبّق تعليمات وزارة الصحة . وللتأقلم مع الوضعية الجديدة لذت بالقراءة سبيلا فحلّقت مع فاطمة بن محمود في″ الملائكة لا تطير ″ وغربلت التراب مع محمد الخموسي الحناشي في ″ عندما يغربل التراب″ علي أعثر على اللؤلؤة الفريدة فما كان سوى ″الثلج الحار″ ″ليوري بونداريف″ الذي يحكى المأثرة المنقطعة النظير التي أبداها الجنود السوفييت أيام معركة ستالينغراد. وتآمرت مع فرج لحوار في ″المؤامرة ″ ثم هربت من Bonjour tristesse لأحافظ على موجاتي الإيجابية فقفزت أماميFrançoise Sagan ولوّحت لي بكتاب les Violons Parfois... . قلت هي الموسيقى مخرجي وملاذي فإذا بالمسرحية صراع حول إرث استبيحت فيه كل المقالب والحيل استعدت قلمي ورثيت ابن خالتي كمال الذي أبى إلا أن يسبقنا في سفره الأخير ويحظى بجنازة محترمة ... و حين استبد بي الشوق شاكست ″غابريال غارسيا ماركيز″ الذي أنقذ بطليه من الوباء في ″الحب في زمن الكوليرا″ وجعل المحبين في سفينة تبحر إلى ما لا نهاية حيث ينعمان بالوصال بينما نتلظّى نحن شوقا لأحبتنا في هذا السجن الطوعي دون خلاص ...تتالت الأيام وبدأ الملل يتسرّب إلى نفسي وتبلدت أفكاري .فرميت بالقلم جانبا وأخذت أدور في فناء البيت ... جميل أن تقطن منزلا داخل المدينة العتيقة حيث لا نوافذ تطل على الشارع ولا جدار يشي بحركات الجوار ... باب وعالم خلفي ...بئر وماجل واكتفاء ذاتي ولا حاجة إلى Sonede ، رفاهية لا يشعر بها إلا من ذاق معاناة المساكن الجماعية أين يشعر الفرد بالعراء التّام كما في قصـتي" الأبنية العاريّة"... نوافذ تكشف كل حركاتك وجدران تشف عن حياتك بكل تفاصيلها ... هو ذا منزلنا العائلي ... نجتمع فيه كل يوم ليعزف يونس ابن أخي الكمان ويغنّي الطاهر بشير. بمنزلنا ناي وعود و مغنّون وشعراء ومدائح وأذكار نقضي ردحا من الليل طربا ... ورشة كتابة وتلحين .... كلنا مبدعون وكلنا جمهور، خلقنا من الوحشة بهجة علّها ترفع مناعتنا لمواجهة هذا المارد المرئي في جثث الموتى، الصغير في حجمه ، القوي في فعله ، السريع في حركته ...
حتى الطرب أصبح روتينيا يبعث الملل مادام محبوسا بين جدران منزلنا الفسيح ولا يجنّح خارجا.... الدفء العائلي نعمة وقوّة ولكنه حدوده ضيقة . والإنسان كائن منفتح يحتاج إلى الاختلاف ليجدّد خلاياه ويشذّب أفكاره ويورق أغصانه...
عدت إلى الورق مسافرة عبر العوالم والحضارات بحثا عن الأمل مع André Malraux في L’Espoir فاستوقفتني هذه الجملة-النصّ: Voici donc ce qui l’a si souvent obsédé l’instant ou un homme sait qu’il va mourir sans pouvoir se défendre.
أنحن في هذه الحالة ؟ أترانا ننتظر الموت ؟ أم هو واقف أمام أبوابنا ؟ أو لعلّه يتلصّص من ثقوب الجدران ليتسرّب الى صدورنا كتلصص الغريب على حرملك أعراسنا في القيروان فيُعاقب بالتّجدير كما في عنوان قصتي" التّجدير". هذا الكائن الغريب المجهريّ الذي قرأت عنه طفلة مغرمة بإصدار شهري عنوانه ″المجلة″ يرد من ألمانيا ينشر مقالات حول القنبلة الجورثومية ... كنت أنبّه وكأني قادرة على إيقاف ذلك فأقول ...″ يا أمي إنهم يصنعون قنبلة بها جرثوم سيقضي على البشر ويبقي على الحجر...″ تجيبني بإيمانها العميق ... ″اللطف ما تسمعشي هالكلام ...ربي هو الكل ″.
جالت في ذهني أن أنصب للكوفيد التاسع عشر شركا ، وما أكثرهن ناصبات الشّباك هذه الأيّام عبر الفايس، وهو المتعوّد أن يتلصّص علينا من أعين المقرونة و الطماطم والخضر والغلال التي تقود عادل إلى فناء الدّار راغما و كأنّه يحمل متفجّرات...قررت أن أمسك به متلبّسا وأقوم بنفسي بتجديره....
عدت إلى ربّي متضرّعة : ربيّ ألا تنقذنا من هذا البلاء أم أنّك تحبّنا إلى درجة تسليط هذا العقاب علينا على قول ....Henri Troyat في كتابه " Le Jugement de Dieu " إذا لم يعاقبنا الربّ قد نسينا Seigneur, si vous n’aviez pas puni Alexandre Mirette – comme il le méritait…c’est que vous avez omis de le punir, il n’a pas bénéficié de votre grâce,mais de votre oubli.
لبست كفني من كمامة و قفازات و شال كبير يغطي الرأس و الكتفين و لو وجدت ″الحائك″ لتلحفت به حتى لا تظهر إلاّ عيناي خلف نظارات الشّمس و بالتالي أضمن حمايتي ... كنت أتعثر أرمي قدميّ دون تناسق و كأنني أتعلم المشي من جديد ... لم يتسرّب الشارع إليّ منذ شهر ... أعتقد أنّني نسيت المشي فتصلبت عضلاتي و مفاصلي وتكلّست. ماذا يريد منا هذا الفيروس ؟ أيريد تكسيحنا ؟ المدينة مختلفة خالية لا يسمع فيها إلاّ صوت الآذان و القرآن ...كنت وحدي في الزقاق وعند المنعرج رأيت هيكلا مقبلا في الاتجاه المعاكس من الزقاق الضيّق ... شابا في مقتبل العمر... أحكمت الشال فوق الكمامة خوفا من العدوى .... هذا الآخر الذي كان ونَسا وحياة غدا غريبا خطرا ... اقتربت أكثر من الجدار لتتّسع المسافة بيننا وحبست أنفاسي خوفا من أن يتسرّب الفيروس مع الأكسيجين ...اقترب الشاب خطوات و اتضحت الرؤيا... كان أحمد ابن أخي الذي لا يفارقني طوال إقامتي بمنزلنا ..″ ما لك عمتي ... أأصبت بدوار؟....″مرارة بطعم العلقم ... كيف أخاف لحمي ودمي في مخاتلة لتموجات الضوء !؟....إلى متى ستبقى المدينة تخضع لشطحات السيدة ″ك″ على قول البشير الجلجلي وقول ألبار كامو في كتابه « La ville serait livrée aux caprices de la maladie » : « la peste »
وبعد كل هذا الألم النفسيّ والجسدي يُطلب منا أن نبقى إيجابين لرفع المناعة.
سألت Jean Paul Sartre في كتابه La Nausée فأجاب « Il est rare qu’un homme seul ait envie de rire ». .
ولكن جدّي محمّد المقداد الورتاني نصحني بـ" البرنس" واستغرب أنني لم أشر إليه وكتابه " البرنس في باريز" في اعترافات الكورونا وأصدقائي الكتّاب...فأجبته بأنّ مجموعتي القصصية " ليلة انتشى فيها القمر..." غصّت به ومجموعتي " خطأ حنبعل" يحتلّ فيها رحلة أخطاء رجال العالم...فماذا تريد جدّي؟ ألم تورّثني القلم فعشت أجري وراءه ... لهاثا لا ينتهي...ماذا بعدُ وحياتنا غدت مقامرة كبرى في ملعب حددته السيدة "ك" كعليسة بجلد ثورها؟
وبين الأخذ والردّ مع جدّي وخطتي للإيقاع بالكوفيد الذي يتحوّل إلى السيدة "ك" إمعانا في التّخفّي ، وجدتني أغادر تونس واتّجه إلى المغرب باحثة عن رسومات الفنان الشاعر " محمد منير" علّه يطلعنا على عوائد المغرب في شهر رمضان وأيّام الحجر الصحّي...وربّما يوقع بالفيروس بريشة الرّسّام فيجدّره في لوحاته...
----------------
نورا الورتاني قاصة تونسية من القيروان
نورا الورتاني قاصة تونسية من القيروان
متابعة / ايمان مليتي
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع