دور وواجب
المبدع في الدفع
بمسار الفن: أفول مناهج وأسس مقابل ولادات أخرى
تعيش الساحة الإبداعية اليوم في مواجهات
مباشرة مع الأحداث السائدة والوقائع المكبلة ضمن وضعٍ غير مألوف وإستثنائي، فهي بغير
معزل عن الجدال الوبائي الذي إجتاحنا والذي إقتحم ولا يزال يقتحم مع بزوغ فجر كل يوم جديد ما
ورائيات المبدع الوجدانية الزاهية، ألوانه الدافئة ومخابئه الحالمة مضللا أمام
بصيرته كل جميل يمارسه وكل حلاوة يصادفها، منتهكا حتى أبسط قواعد عيشه وتواصله وإنفتاحه
على العالم وعلى الآخر، ليعيش ضمنه أقصى درجات التوتر، الصمت والخوف، خوف من
التفشي، خوف من العدوى وخوف من الموت، من وباءٍ لا يزال موضع خلاف وإختلاف، يفتقر
حتى أبسط مقومات تحديدٍ لكينونته الفيروسية، مسببات إتساع نطاقه، والوسائل الناجعة
لإزاحة تامة ونهائية لكابوس إستعماره تفاصيل حياتنا اليومية.
ولعل هذه الظاهرة الوبائية المركبة
والمتعددة الأبعاد قد دفعتني بوصفي فنانة تشكيلية تعيش وسط القلق والخوف جراء
أواصر هكذا جائحة سائدة بمستجداتها المتعددة والتي من شأنها الإضرار الوجداني
والفكري والنفسي للإنسان بصفة عامة وللمبدع بصفة مخصوصة، وكباحثة أكاديمية تتقصى
كل ما يرافق مسار الفن بالتحليل والبحث، إلى تناول هذه البادرة في هذا المقام الجليل
كموضوع مقالٍ له من الأهمية بقدر، جدير بالملاحظة والتعقب والتناول، سأحاول عبره
تلمس واقع مبدع سيحاول أن يتبع في طريق زمن بروتوكولاته " الجائحة الوبائية
" بعضا من المسالك الإبداعية الجديدة بأسس وقواعد مغايرة لما سلف.
وباء الكورونا، ظاهرة عالمية نامية في
الإنتشار والتغلغل تطل علينا من كل ناحية، لا وطن لها ولا حدود لها ولا رادع، تهدد
العالم باسره لما يحيط بها من هالات أخطار تكاد تعصف بحضارتنا المعاصرة، لتنتج عنها
تحولات تنحو منحى اللإنحدار السلبي ضمن حيز وطني وإقليمي وعالمي غير مستقر، مما
جعل من فعل تطويقه من قبل الجهات المعنية بالأمر العصي إلى غاية هذه اللحظة إذ لا
زالت تتبع أولى خطواتها لمحاربة لعدو زلزل بمجرد حلوله وفي فترة قصيرة جميع
المجالات، فبين ركود ثقافي وإيقاف لمختلف التظاهرات والندوات والمعارض والنشاطات،
وعزل مجتمعي بإلزامٍ صارم بإلتزام المنازل نحو سلبٍ للحريات الأساسية للأفراد، وإنهيار
إقتصادي، وتشتت سياسي، يعيش المبدع يومياته في إنتظار معجزة تنتشله من الجمود، يصنع
من خلالها الحدث، حدث تشاركي وتواصلي قوامه العولمة برقميتها الإفتراضية، ورغم فرض
لقانون وقائي من تبعياته الإنغلاق والإنزواء، سيحاول تحريرنا من مكبلات هذه
الجائحة الوبائية حتى لا يعيش المبدع ولا الفن على أعتاب ثورات عبودية جديدة،
لعلنا نعيش أطوار ولادة فاعل فني بديل يتماهى بكافة أركانه ووسائله مع الظرف
الراهن مكتسبا نمطا ونماذج وأساليب وصيغ مستحدثة تجعلنا نحسن التعامل معه، ورغم
أنها مسؤولية تقع على جميع أفراد المجتمع لإزالة الخوف والنهوض من هكذا أزمة، نحو
حماية مزدوجة للمستقبل ونشرٍ للأمل، إلا أن المبدع يلعب الدور الكبير في هذا
الشأن، كاسرا الوصاية بالتحرك والمبادرة والفعل ولو إفتراضيا وعن بُعد، ولو من خلف
الجدران والأسوار، ودون حشد حقيقي أو تموقعٍ في مساحات فضاءات عرض واقعية، وبصورة
نتجاوز ضمنها ركب القديم والمألوف والسائد، ففي أي حال العالم يتغير من حولنا على
نحو لا سابق له بقدر يدفعنا ويحرضنا على إعادة النظر في شعارات إبداع طالته
التغييرات في المفاهيم والأساليب والمعايير، لتتغير ونتغير بها ومعها، منتقلين من
مبادئ المنظومة الثابتة والجامدة والمقيمة نحو مفردات الشبكة المتحركة والسيالة
والعابرة، ومن الإنغلاق نحو الإنفتاح للتبادل والتداول ،أكثر فأسرع، وبإمكانات
هائلة وبأدوات فائقة باتت الحين معطيات لا غنى عنها لإعادة الفن بناء ذاته مغيرا
من موقعه في العالم بقدر ما غيرت الجائحة علاقته بمفردات وجوده، فاتحة بممكناتها
حيزا للتفكير والتدبير ضمن فكر حي وخصب يقدر المبدع إلى ترجمة معطياته بصورة نافعة
وملائمة للمجريات. لعلها إنتفاضة متعددة الأبعاد، فنية بقدر ماهي فكرية، تقنية
بقدر ماهية وجدانية، لمبدع فاعل جديد، ميزتة الأنا التواصلية والتداولية، متعاملا
ورغم الظرف المعاش مع المعطيات المكبلة محاولا التحرر من سجنه ولو إفتراضيا بحنكة
الإبتكار والتجاوز، مناجيا التوق
للحراك المستمر وللإنعتاق ورفض للسكون والثبات مما أستقر وجمد ضمن خطاب
المقاومة من أجل النهوض ومزيد الدفع بوجوده الخاص نحو إشارات إبداع إستدلالية يضيء
بها حاضره الضبابي ومستقبله الغامض بمخيالات خاصة نتجاوز بها عوائق الراهن، وبمحاولة
تحريك الساكن والتعامل مع دائرة المعيقات بجعلها في دائرة المتاح، متاح مطوعٌ وفق
خصوصيات الظرف الإستثنائي، إذ على المبدع بشتى إختصاصاته اليوم محاولة التحرك لممارسة
حيويته الخلاقة وتحمل المسؤولية عن نفسه في قود مصائر الحياة الإبداعية مع الأخذ
بعين الإعتبار خطوط الحظر الصحي وعدم تجاوز قانون السلامة الوقائي، وذلك بالتسلح
بالمرونة والتكيف التواق للتوصل إلى مواجهة
ما يتعارض مع نمو الإبداع، بالسعي إلى تحقيق التغيير بقدر المستطاع ورغم
العوائق الجارية وأشكال التضييق، أملا في
إستمرار الدور الطلائعي للفن وتفعيلا لمكانته في الحياة الإنسانية، فالفن يدعم
الطموحات ويستشعر الإحتياجات ويلامس المشكلات متناولا شتى القضايا الموجودة على
أرض واقعنا وبصورة أعمق وأوسع من باقي النشاطات، قاطعا على نفسه وعدا بالتطور
والعطاء المستمر وبالرغم من مراحل التقلب، بالإنتقال من دائرة الرضوخ للقدر
والمصير، متصدرا دائرة الإنتفاض والمواجهة،
مستبدلين ربيعا معتما بتعدادات الموت المتزايدة
كل لحظة بآخر يزهر حياتنا ويعكسها جمالا، كلحظة
واعية ورسالة ملتزمة تتجاوز الوعي السلبي ومخلفاته، بل لعله واجب وطني ومسؤولية
إجتماعية لهذا المبدع وذاك، واجب يتطلب كل محاولات الإستثمار لخلق فنون جديدة
خارقة وغير متوقعة ولا مسبوقة تتماهى مع
ما تتيحه لنا التكنولوجيا ونحن في عقر دارنا من حيث هويتها المفتوحة والمركبة
والتعددية بحيث يغادر المبدع عبرها عجزه الظرفي ويستعيد فعاليته وحضوره الإبداعي على
المسرح الكوني، متجاوزين بالفن في مختلف حقوله وقطاعاته وإختصاصاته، الجائحة إلى ما بعدها بالحيوية والحرية
والمبادرة، فلما لا تقام ورشات تعليم فنون التشكيلية والمسرحية عن بعد، ولما لا
تتواصل القراءات الشعرية بشكل عابر للحدود، ولما لا نجتمع مواقع رقمية تساهم في
تكوين المهتمين بالأدب وتطوير من ممارساتنا فيه عبر الحوار والنقاش ضمن حيز جماعي،
ولما لا نواصل إفتتاح المعارض والمهرجانات ولو إفتراضيا وعن بُعد، ونقيم أكثر
فأكثر الندوات ولو بمنصات أنظمتها رقمية تطرح كل مرة قضية على أسس وقيم جديدة تأخذ
بعين الإعتبار تنوع الشرائح المجتمعية المتلقية وتعقيدات الواقع الحالي، نحو
الإصلاح والنهوض، وكسر جدار الصمت والخوف
يساهم ولو بقدر في إنزياح هذا الكابوس.
هو
ليس بالمنهج السحري الأشبه بالمستحيل، بل لعله فقط مجرد تكريس إيجابي للمعجزة التي
صنعها الفاعلون الميديائيون والناشطون في الميدان الرقمي ممن إستثمرو على نحو خلاق
وبناء فتوحات عصر العولمة والمعلومة والشبكة، نحو تحول إبداعي تواصلي أكثر
ديمقراطية، يطوي حقبة فنية ويفتح آخرى، فن ما بعد الجائحة، وأي فن سيكون ؟ فن أفقي تبادلي، ينتقل عبر الشبكات الآنية
والوثائق الرقمية، ويستبقى بمعلوماته العابرة والسيالة، مستنجدا ببرمجيات فائقة الترابطية ضمن منابر متشعبة
للإتصال والتواصل الإجتماعي، ميادينها الإفتراضية كطريقٍ سريعة للنشر من " فايسبوك، تويتر، واتس أب ويوتوب وغيرها
" وليحاول عبرها المبدع اليوم بكينوناته المتلونة، كفاعل وناشط وخالق وصانع، الخروج
بالفن إفتراضيا إلى النور وفق علاقات تبادلية هائلة تكسر حاجز الإنزواء والعزلة، وليحملنا
إثر ذلك نحو حقبة جديدة ستتغير ضمنها صلة الفن بالواقع بقدر ما ستتغير طرائق
التفكير فيه وقواعد المداولة والعرض والتلقي والإحساس، بما يوازي ويواكب فترة حرجة
باتت فيها المصائر متداخلة ومتشابكة على مستوى عالمي، تغيرت فيها الخرائط
الإبداعية والثقافية بقدر ما تغير مشهد العالم، وبصورة غير مسبوقة لتدور في فلك ضبابية
انسداد الأفق وتقف في صف الجمود المؤقت على خلفية صدمة الجائحة المفاجئة والغير
متوقعة، جائحة قلبت الحياة رأسا على عقب، لم تكن محسوبة ولا محتملة، غيرت مجرى
الأشياء ومسار الأفعال والذوات والجماعات كاسرة إثرها القوانين والبروتوكولات،
مُشكلةً نوعا من الغطرسة والإستبداد بعد تقويضها للحريات وإستعبادها للممكنات.
لعلها مسؤولية جسيمة يؤمل أن يحملها أهل الإبداع وقد بدت بأخذ منحى تطبيقي وتجريبي من قبل البعض
من الذين أمنو بضرورة التسلح راهنا بالشبكات والإنخراط في منطقها الديمقراطي بصورة
إيجابية وبناءات متواصلة لا تتوقف، وسيرورة متنامية من الخلق والإبتكار بمفردات
اليومي الحيني، الزائل والعابر، المتغير والمتحول، والأمل أن يتعزز هذا المنحى،
لنتجاوز معه خانات الثبوت والجماد.
أيا كانت العراقيل، نحن كمبدعين قبالة ثورات جارية تطرح
قضايا وإشكالات ملموسة تتصل بما نعيشه وما سنعيشه من مصادر حجبٍ وتضليل، أو لنقل
مصادر إستعباد جديدة تزحزح الثوابت وتقلب الأقدار.
-----------------
مها الكشو بن عمر - باحثة أكاديمية -
دكتوراه مستوى خامس اختصاص علوم وتقنيات الفنون
بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس
2020
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع