شغفي سمكة وقلبي طائر أزرق
بقلم: د. هالة
الهذيلي
احتبست الكلمات - هذه الفترة القريبة - في
راسي الهرمي الشكل، واتخذت من حالات بوحي صياما مقبولا وذنبا مغفورا، لقد انشغلت
جدا، إلى حدّ وجه الصباح المشرق المضيء، الدافئ المثير، أبحث عن جزء مني لم أجده
في حنايا الجسد الممدد والهارب بين الغرفة والغرفة المجاورة.
إن غرفة واحدة
لا تسعني، هنا - وفي اعتيادية الموقف المباح لهذه الالتباسات العميقة جدا بيني
وبين نفسي - أمعن في شاشة الهاتف المحمول، وأصافح زر الكاميرا، وأتفنن في تصوير
السلفي، علني ألقف من اللحظة فهما ذريعا بـ الأنا المتبسمة؛ كيف نبتسم كل يوم ونحن
الأنا المتكررة؟ ولمَ نبتسم إن كنا بصدق بحاجة للعنف الصارخ الذي نتملكه بدرجات
مختلفة؟ .
قررت أن أكون - ليوم أو ربما ليومين أو لأكثر -
الأنا الشريرة؛ فماذا سأفعل؟ وأي خطوات سأتبعها؟ لن أقرأ ولن أطبخ ولن أرضخ ولن
أضحك ، فقط سأصرخ ملء حلقي المحتاج في هذا اليوم الصيفي إلى قطرات تبلله، فابتلعت
ريقي لبرهة وأعدت الكرة. لا يعجبني شيء في هذا الصباح، الفوضى في كل ركن من أركان
الأرض، والرجاء ما زال متعلقا عند مرايا الغد، في خضوع لقوانين حدّ لهذا الوباء.
لقد دأب جمع الجيران على صوتي المباح في هذه
الساعات المتتالية من اليومي المكسور والمحجور، فأحسست للحظة بأن الدبكة
الفلسطينية ترقص في جوقة البيت، و"التخميرة" تعم الفضاء،
و"العيالة" تعانق الأرض في سحاب اللقاء، وأهازيج الطبلة تقرع في أعالي
الجبل الممتد هناك، وهذا غيلان يحارب كالمعتوه الغارق أملاً وحكمة وتصدياً للفرار
من القرار، ويدافع عن ضرورة بناء الجسر، وتعليق ضوء الأمل المدرار. أصرخ لأكون أو
لا أكون، لكني أصمت بحنو كلمات الصبر، وتجمّل ميارا الساكنة في شمس العقل الساطع
كالثلج المحترق، فقلبي "مليان، مليان ويسيل مثل الوديان"، فتذكرت ميمونة
وصوتها الباهت المتقد كالسهم في قلب غيلان، "فلنزهد ولنستسلم يا غيلان، دع
عنا السماء و الأعالي، ولنكتف بالأرض، وإنك إن أتممت الفعل وانهيته فقد قتلته،
فليبق هذا السد غير تام، وليبق له خلوده ياغيلان، دعه بلا نهاية، ولنكن لأنفسنا يا
غيلان ولا لغيرها، لنكن للحاضر لذيذا، ولنكن القريب البعيد، اللذة الحاضرة
والسعادة الحاصلة، نستبعدها كالتمني وهي واقعة، لتكن مقدمة لنفسينا، وتمهيدا ننتظر
النعمة وهي حاضرة، ونتوقع المتعة وهي شاهدة، وتنتظرني وأنا بين يديك، وأنتظرك وأنت
فيّ، لنجعل الطلب في قلبينا، أطلبك وأنا حاملتك، وتطلبني وأنت حاملي، لننس الممكن
يا غيلان، لنكن الفجر..."
إن الكائن
النسوي، الذي امتثل لقوانينه الطبيعية بسلاسة مشكوكة، والمسخّر في كوكب الأرض لـ :
الحمل، الحب، السهر، الجمال، البوح، إحضار العصير البارد، تسخين الحليب، تجفيف
بكاء الصغير والكبير، فض نزاعات الجيرة بين سكان الصندوق الواحد ذاته، تسريح خيوط
شبكة الإنترنت، البحث مرارا عن شاحن الهاتف الضائع، تَقَلّد زمام التفكير في
مستقبل دراسة الأشبال، تعديل برامج الكلية، مراوحات اختيار العودة أو بث المعرفة
عن طريق بحور الافتراض، وذلك مُذ قرر ليوم واحد أن يعلّق الخدمة ويسافر للسماء
بحثا عن الماء على سطح القمر.
حاولت التعود
والاعتياد، والتجدد في العود على البدء، وتسفير كل طاقات القلق الركيك إلى عتبات
المساء، ولم يكن هذا إلا بتكرير حالات الشقاء وطلب الشفاء. "قالت له غراسيوزا
إنها لم تستطع النوم، وإن ذكرى مصائبها تعذبها، وإنها لا تستطيع الامتناع عن
التفكير بالعواقب؛ قال لها: فما الذي «يشعرك بالخوف يا سيدتي؟ أنتِ الملكة هنا،
وأنتِ محبوبة جدا، هل تريدين أن تتخلي عني لأجل عدوّتك القاسية؟ قالت له : لو كنتُ
سيدة مصيري لكان القرار الذي تتخذه هو الذي سأقبل به، لكني مسؤولة عن كل
أفعالي".
إن هذه الشخوص ليست اعتباطية، ولا يوجد القلم
هنا حبرا لتحوير أو لتغيير مسارات سفرها نحو السماء في حفلة المساء على سطح القمر،
فتحمست جدا، ونسيت بشريتي لوهلة ما، استفقدتها سريعا، ثم رميتها جانبا، فكم نحن
مشتاقون للحظات الفرار المسجلة تحت خانات المعقول، والمجانبة مصائر القول بالخضوع،
والنفس أمارة بالجنون، إنها سفرة القرن يا فتون، والنفس بحاجة ماسة لنظرة لاعبة
متهكمة على هذه القرارات اللاصائبة والانتصارات المتوقعة.
غمّست أصابعي في
عجينة الدقيق الصالحة لكل الأطباق، فسأصنع منها البيتزا والخبز، وسأرسم شقائق
النعمان؛ تسرب الألم ليدي اليمنى، ثم اليسرى، ثم كان الألم مناصفا في كلا
الجانبين، ففي طرق العجن وصفات سريّة متوارثة من تاريخ اليوتيوب المفخخ والمدججة
بألوان الطبخ الكثيرة، التي تحملني لاستعجال الموقف وتسخين المقلاة وتثبيت
الماكياج وتعطير الجلباب والاستعداد الآن للصلاة، فدعوت الرحمان، وأقمت الاستغفار،
ثم نهضت.
قال : "إنه
لا أمر لا يغتفر، الناس خلقوا فقط ليعذب بعضهم بعضا، وليطاردوا حيوانات مسكينة لا
تتسبب لهم بضرر أو أذى، ثم استل سكينة وقطع الحبال الصغيرة؛ حلقت البومة، لكنها
عادت بسرعة وقالت: محبوب، ليس من الضروري أن أدلي لك بخطاب طويل كي أفهمك، كم أنا
ممتنة لك، فالإناء ينضح بما فيه؛ كان الصيادون سيأتون، وكنت عالقة، وكنت سأموت لو
أنك لم تأت لإنقاذي، قلبي شاكر لك ما فعلته، وسوف أجازيك بالمثل".
الامتنان شفاء،
وإن طغى في غير موقعه أصبح شقاء، فإلى أي نفس نستحق وجه البومة الغناء، وحكمة
مينرفا، وطرائق الطيران الزرقاء؟ لم أجالسهم مائدة العشاء، بل كنت هائمة بانشغالات
شغفي المبحر في دهاليز السحب وأعماق البحر وألمعية النجوم في السماء، كما أنني
عزمت على أن أصنع شخصية الدهاء، وأتفنن في كسر هذه الطيبة الحمقاء، واتخذت من
الأريكة البنية التي صاحبتني في كل البيوت التي سكنتها يوما وأسكنها الآن والهُنا،
مكانا لعرش التأمل بعد فترة المسلسلات وما فيها من صور الواقع المتخيل المعاش إلى
حين اللقاء؛ "وما المشكلة إن كنت أعاني من بعض الشكوك، أو لدي بعض المفاهيم
الخاصة بي؟
إن المشكلة
المزمنة في عالمنا هي عدم القدرة على احتواء الآخر بكل تساؤلاته وأفكاره واختلافه،
وبدل مناقشته بالعقل، يرشق بمجموعة من الاتهامات والتهديدات بنهاية عاقبته السيئة،
مع العلم أن العقل لم يكن يطلب سوى البنية والحوار بدل سياط الجلاد التي يلقيها
التخلف عليه، الذي لن يكفيني في الحديث عنها مجلدات لسطر عقم منهج من يمارسه، ولعل
هذا الأسلوب هو سبب جنوح العديد إلى التمرد على الموروثات، وتبني أفكار أخرى، وعلى
الرغم من ذلك فهذا فن، ولا أرى أن هذا الموضوع قد يمنع من أن تكون العلاقة جيدة
بيننا... إن أردت ذلك، " قرات بعض الصفحات من "شيء من الجنة"،
وبقيت منحازة للتفاصيل المنمقة في مبدأ العلاقة وقوانين الدخول إلى الجنة، فهل
تكمن السعادة خارج سور جنة الزهد في اعتيادية اللحظة المحتملة؟ لكن "غرفة
واحدة لا تكفي".
يا لهول الصدفة
الباقية، ها نحن نتقمص دور البطل، واحتبسنا في غرف مجهولة العنوان، ويجمعنا الهواء
المصير المحتمل ذاتاهما؛ ومن خلال ثقب أبواب الشاشات نبحر بحثا عن شبيه لنا، يحتوي
الشغف الواحد المختلف، لكن البطل لم يجانب سوء الموقف بالدهشة والبكاء والشجن، بل
سبح في رحلة التلصص الفكرية في أعماق السرد لتاريخ محبر محمر القلم.
إنني هنا - في
هذه العبارات - وهناك - في عجيب الخيالات المختارة - كم نتشابه في الشعور والأمل،
وكم تفرقنا أعباء الغد ومسارات الطريق المخترق، فهل «يقرأها المخلوق أفكاري؟ أنا
شبه متيقن أنه يعلم بوجودي في الغرفة...وإن كان يقرا الكتب نفسها التي أقرأها،
فهذا يعني أننا متشابهان في طريقة تفكيرنا أيضا".
اعتدلت في
جلستي، وترشفت كأس القهوة السوداء، لا أعلم كم ساعة اللحظة في هذا المساء الملبّد
بمليون اقتراح للسؤال والجواب، وكلّي حماسة، أتلقف سطور الرواية، وأبتسم في نشوة
الاكتشاف، نسيت - لبرهة - سفري للقمر هذه الليلة المنتظرة، وخلعت عني مشروع
التحوّل للشخصية المستبدة المستنكرة، وبقيت أنحني "نحو ثقب القفل بعيني
لاستكشاف ما يوجد خلفه، ثمة غرفة أخرى يوجد فيها شخص، كان واقفا كي يضع كتابا في
رفوف مكتبته الشبيهة بمكتبتي، ثم التفت ليصبح وجهه في مواجهة عيني، قبل أن يجلس
دققت في ملامحه جيدا، ذلك الشخص كان أنا" فمن أكون؟ وأين نجتمع مع الأنا في
كُمون؟
تتحملنا الغرف، وتجانبنا اللهفة، لكي نطير
خارج دائرة القلق والخمول، فغيرت لون الجدران بدرجات ألوان البنفسج والأزرق
والأبيض كلها، وقرات سطورا من "اساور البنفسج"، فرسمت "دمعة تحكي لون الأخضر
في صخب البحر
لون بحر أزرق لدمي
بين روحي وقلبك "
وتمهدت في رسم طريق البحر المخزون بعواصف وعيي
المحتوم، وحملت ما تبقى من قهوتي، وخرجت أرقب القمر، وأتمشى أمام الباب، علني
أتذكر معنى الهواء، وأخرجت من رأسي موسيقى الترف العاطفي كلها في هذا المكان،
وتساءلت من سيقرأ هذه المحيطات من الكلمات، ومن سيعجب برقصتي الاعتيادية، فأي قول -كما
يؤكده المسعدي - هو ما "يفضح باطنك من حيث تشعر أو لا تشعر، فاحذر أن تستبله
الناس". حركتني نسائم باردة، وأعدت فتح شاشة هاتفي
المحمول، وتسمرت راقصة أمام ما ينشره الآخرون، وانسقت شغفا أبحث عن تفكيك شفرة
الهروب، فقط هذا الخوف لشربل داغر، فـ "وحدها الكتب كانت ترى، ولا تصدق
حيرتها أمام ما يجري على مقربة منها من دونها...فقط هذا الهدوء الثقيل، ارتطام
الهواء بالهواء، وخشية القريب من الأقرب، من الصفيح أو الخشب، من غبار النافذة
المشرعة، أو مما يصل إليها الهواء...فقط هذه الأصابع فوق شاشتي الصغيرة تقودني إلى
حيث لم أقصد، مثل ورقة طافية فوق موج ظنون،
فالحروف تتهادى من دون مجاذيف من تلقاء نفسها تنقلني، لا توصلني، مثل خوفي
لا ترشدني...." تركت الهاتف ودخلت، للمرة الألف أفشل في أن أكون إلا ما كنته
دوما، بحثا عن مقاصد التفكير خارج مصائر الجاذبية والـ أنت...
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع