"ابداع" من رحم الازمة
بقلم د. هالة الهذيلي
كيف نعيش زمن القلق الإبداعي في يوميات الحجر الصحي؟ كيف نذيب هذه الساعات التي تتقاطر ضمن موكثنا القسري في محيطنا المغلق والحميمي؟ كيف نحول هذه الكثرة الى وحدة ممكنة؟ لقد اتفقنا اليوم، واتحدت الشعوب والاوطان، بان التقوقع في البيوت هو رهان مراحل مجابهة كوارث فيروس كورونا. هذا الفيروس المستجد القادم الينا من الصين، حيث عرفت شعوبها حربا شديدة الوطأة لضمان سيرورة الحياة وتعدى الازمة ونشر السلامة. امتدت خطورة الفيروس الى خارج المنطقة ليتم إعلانه كأخطر الانتكاسات التي تعرفها البشرية، طالما لم يتم العثور على لقاح للمرض. كورونا فيروس متجدد يسبب في اعتلالات تنفسية للفرد وما يخلفه من تغيير لكل ماهو متوقع في خارطة العالم وعلاقاته وعقده الاجتماعي المستجّد، فأي عالم يحيطنا اليوم؟ وكيف نعيش الفواصل وفن المسافات؟ كيف نضمن الوجود الامن مع غيرية الاختلاف خارج الوساطة المادية؟
يسجل التاريخ الراهن دخول الإنسانية في حروب جامحة ضد جائحة الكورونا، هذا العدو المتخفي الملموس والساري في هواء يتقاسمه البشر، فمنعنا من المصافحة والاحتضان والسفر، وتغيرت عوالمنا الرحبة والصرحية الى كوكبة المنمنم واطره الالكترونية. انها نقلة غير متوقعة ان تتحول اليوم كل مصائر العالم موحدة، خشية عدوى الوباء والالم، فاحتضنت الأوطان شعوبها لتتوحد في لحظة التخلي عن الفضاء الرحب والسكن في الحدود الخاصة والحرم الذاتي. فكيف تتغير الشوارع اليوم من حاملة للحياة الى مسارات صمت واحتراز؟ وكيف يترجم المبدع اليوم حالات التغيير الملزم في قوانين التعايش المتداول؟ هل يتولد الابداع من رحم الازمة لضمان المقاومة؟ وكيف ذلك؟ كيف يتحول الشارع، هذا الفضاء الرحب والتشاركي مع الاخر في إطار التعايش السلمي، الى خطر معلن وصريح؟ والى أي مدى وجب الاحتراز من الاخر "الموبوء" الاخر "الجحيم".
تغيرت أنظمة التفاعل المباشر والغير مباشر مع واقع العلاقات اليومية والاجتماعية والمحلية والعالمية، لتتناسق اليات الاستئناس الجديدة بملزمات التعايش الحذر والهش في محور أنظمة العدوى الصحية والمباشرتية، ومن هذا الموقع تحول المكوث بالبيت والمسكن والفضاء الحميمي دعوة ملحة أطلقها سكان العالم لتنبثق اللحظة الاستفهامية والوجودية والفكرية والابداعية لفن التواصل والتعبير والحب والمقاومة، فكيف ذلك؟
رؤى التغيير ورهافة المعنى:
ضمن مبدا التنبؤات بالمستقبل واستطلاع التوقعات التي تنتظرنا من "ثورة الكمبيوتر والتي بدأت منذ مدة تغير شكل الاعمال والاتصالات وأساليب حياتنا والتي اعتقد انها ستعطينا يوما القدرة على وضع الذكاء في كل جزء من كوكبنا" فان ما نعيشه في الوقت الراهن بات بحثا متجددا حول نوعيته وغرائبية تشخيصه، والتي تغرقنا في عوالم الثورة البيولوجية، و"التي ستعطينا في النهاية القدرة على تعديل وتخليق اشكال جديدة من الحياة وصنع ادوية ومعالجات جديدة." اليوم ونحن في معترك بدايات 2020 فإننا لم نعد نتنبأ بقدر ما نحن منغمسين في مرحلة التعايش مع الوقائع وفق الإمكانيات وجملة التطبيقات العلمية المتجددة والغير محدودة، فكيف نصوغ القوى الطبيعية حسب رغبتنا؟ وكيف نرقص على نغمة مشتركة في هذا العالم المفتوح والممتد، عالم ثورة" الكم "، هذه الثورة العلمية المضاعفة والمبشرة بالام"المخاض لمولد عصر جديد؟
هل سال المبدع يوما عن مستقبل العالم؟ هل كتب رجال الدين يوما صور المستقبل؟ وهل حدد العلماء يوما مسار سياقات المستقبل؟ عندما رسم سالفادور دالي عوالمه السريالية هل تفطن لأجندات التغيير الواقعية لكوكب الأرض اليوم؟ وعندما أخرجت السينما الأفلام الخيالية صورا عن تخصيب الصور المستقبلية واستقراء الثورات البيولوجية، هل كان ذلك وسطا علميا ام مفاهيميا ام ابداعيا لحصد نظرية مدققة لكل الأشياء؟ يعيش الانسان في الزمن الراهن تبصرات ثاقبة تفتح له مدارات بحث جديدة تقحمه ضمن دائرة الدهشة والصدمة والتغييرات المحرجة لواقعه المأمول. ويسكن العالم اثارة حيوية خالصة تكاشفها لحظة اكتشاف الفيروس، واعباء التصدي له ولتبعاته وتطوراته البيولوجية الجزئية ضمن ثورة الكم.
"ان أي محاولة لتكييف العالم وتعديل شخصية الانسان لخلق نموذج مختار من الحياة تتضمن عواقب غير معروفة، ان مصير الإنسانية من المؤكد ان يظل نتيجة لذلك مقامرة، لان الطبيعة سوف ترد على ذلك في زمن غير متوقع وبطريقة غير منظورة" يذكر رينيه دويو المغامرة التي يصنعها البشر في محاورته العلمية والتعديلية لقوانين البحث وقضاياه الأساسية والتي من شانها ان تولد هذه القوى المضادة التي يمتلكها العقل البشري لتصبح المعرفة قوة والقوة ليست مسالة اجتماعية وسياسية في حد ذاتها،"انها ليست خيرا او شرا انها مجرد معرفة" فكيف يجتمع العلمي مع بنود الاخلاق والقيم؟ أي تشريعات يكتبها البشر في إطار تطعيم التقنية والبرمجيات مع مجرى الحياة لتحويلها يوما معاهدة استثمارية ودفاعية وهجومية صارمة؟ أي معنى لهذه القوى السارية والمحيطة بنا؟
إبداعية التعليل ضمن نمذجة التعميم:
تعتبر الجائحة المستحدثة في عالمنا الذي نعيش مشروعا لمبدأ "التشاكل بين كل من القوانين الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية وبين القوانين الطبيعية، لتتحدد مواضع التفكير العلمي والانطباعات الحسية، والمبادرات الإبداعية وفق رمزية النمذجة الجديدة واليات الابداع الجماعي. يظهر" الابداع دوما ظهورا خاصا...فتوجد أنواع من الإبداع بقدر ما تشمل عليه الطبيعة الإنسانية من خصائص جسمية ونفسية وعقلية وانفعالية". انخرط المبدع ضمن سيكولوجية البحث عن السعادة وطرق توظيف الإطار الزماني والمكاني وتعميم الازمة الإنسانية التي يمر بها الجميع ليكتب ضمانة مشهدية في إشكاليات التعبير الفني ورمزيته المتجددة. فكيف تشاكلت الإبداعات البصرية وفق مبدا التعميم وسياقات تعليل البحث وتفاعلاته؟
ان نكون "على مستوى الواقع اليومي" و "ان نفهم الواقع انطلاقا من اللامعقول، أي ان نجمع بين الواقع والخيال...وان تكون الأفكار "موجودة في كل الرؤوس وان نطرح السؤال بتؤدة كما تنصحنا به عبارة ارسطو."، هو الانحراف المعيشي الذي عمّ ضمن سياسة توخي الإصابة بالعدوى من الفيروس المستجد وتوفير الطاقة لحب المصير المشترك للإنسانية جمعاء وتعميق "التهتك الجمالي، اي الانفعال المشترك" ، لأننا نعيش وحدة الشعور، شعور توفير العقد الجمالي ضمن اشكال التفاعل الإبداعي المستجد وتعليله كنموذج تعبير وافر الدلالة والعمق التشاركي .
تدفقت سيول التفاعل الإبداعي في ايام الحجر الصحي الذاتي وتناثرت صور اللوحات والشعارات والفيديو والاغاني والبث المباشر على صفحات الوسيط الافتراضي وشبكاته المتعددة من واتس اب وفيس بوك ويوتوب وانستغرام وتويتر وغيره. كل يغرد بطريقته المناسبة والمستجدة تبعا لتواتر الاخبار المتسارعة لواقع المحنة الصحية التي يعيشها البشر، واعتمد عدة فناني العصر على ابلاغ الطاقة التعبيرية التي بحوزتهم بإنجازاتهم اللونية والتجريدية والسريالية على حد سواء، فكيف يضمن الفنان الراهن التجلي الأقصى للحظة الإبداع في زمن المقاومة؟ كيف يتولد الفن في رحاب القلق؟ أي قلق بصري يولده العمل التشكيلي الراهن؟
حملة البقاء بالبيت والعزلة الذاتية والقطيعة المباشرتية والمادية مع الاخر دفع بالمبدع الي إيجاد طرائق التعبير التشكيلي وضمان أسطح افتراضية لنشرها وتشريكها مع الاخر المتلقي، وتعددت التجارب الأولية للمصائر اللونية المشتركة لتذهب الفنانة المصرية امل نصر في رحابها الافتراضي لنشر تخيلاتها الخطية وتهيجاتها التعبيرية المزامنة لحالة الذعر التي انغمس فيها كل البشر ضمن مبدا تعميم الازمة والبحث عن مظاهر التقاسم الجمالي المحتمل. تمازجت الانسجة الخطية مع اللطخات اللونية المختزلة الصادمة لتشكلات لا مرئية تكاشف فيها الفنانة تجليات الازمة وتعمل على تلقيها بصريا بنوع من الرهافة الجمالية وتعميمها. وتعددت مرافق السلوك الإبداعي المشترك ضمن مبدا الاستعداد الشامل لترجمة الموقف المعيش لتشكلات بصرية متعددة، ليكتب الفنان التونسي محمد سحنون ادعيته الصوفية بخطوط راقصة متجانسة، لتتضافر جهوده القائمة على تمرير لحظات الوفرة المشاعرية كمقدار صائب نافذ للآخر المتلقي واستشعاره بهيمنة التآزر الإبداعي المشترك.
من سوريا امتدت رسوم رندة مداح الى اسوار الكشف المعلن عن تصويرية الخوف واشكالات الذكاء العاطفي المستجد لترسم خوفها واجسامها المعلقة والمتألقة وفق مبدا الإصابة المستفحلة في صفوف البشرية، ليعلن بدوره الفنان التونسي اسلام بلحاج رحومة اصابته الصارخة بمبدأ التشارك الإبداعي ليرسم يوميات الحجر الصحي الذاتي وحملة العالم "البقاء بالبيت " ليخرق البقاء المادي عبر سريان خطوطه المتشابكة والحادة في رسوماته الخطية المتجددة.
يرسم اسلام خيالات مختلفة لعلاقات متلازمة بين الجسد والكتلة اللامرئية ويتلاعب بقيم الضوء والعتمة ضمن لعبة القابلية المشهدية. من جهته تناول الفنان نبيل على، زياد غازي ومحمد أبو النجا دور الصورة وإملاءاتها التعبيرية في منجزهم التشكيلي لطرح مفهوم البيئة الاجتماعية المشتركة في محاور الابداع زمن الازمة، ليكاشف كل منهما لغة مشهدية تمزج الخيال بالواقع باعتماد تقنيات متعددة، من شانها ان تنسج صور صادمة وتجارب مزامنة لواقعية الضرر المعنوي والمادي وبناء جسور التصدي له وفق الاستهلاك الجمالي ونمذجته على سطوح الواقع الافتراضي.
تعددت الأسماء والتجارب الإبداعية العربية والعالمية التي تكاشف يوميا سياقات الابداع البصري وطرق نشره وتفاعله مع الاخر عبر الشاشة المفتوحة على صور من العالم، العالم الموبوء والمهدد ،ليستمر استثمار الاعتقادات الإبداعية ومذاهبه الجمالية، لنختم بمقتطفات من كتاب دراسات في التصوير الضوئي للدكتور العماني عبد المنعم الحسني ، اين تنبت القراءة الدلالية لسيميوطيقا الصورة، وتتعالق المجموعات المشهدية وفق "ضجيج الصورة المتناثرة... لتشكل مشاهد اكثر تشتتا ...ركام من الأوراق وحبر يظل ينزف وينزف وينزف حدّ النهايات ...رعب من صراخ الصورة... وخوف من عدسة المجهول، تيارات وتيارات فكرية وسياسية واقتصادية وثقافية تترنح من مشرق الى مغرب لتشكل فضاءات العالم القادم...اعلام يتراقص على جثث الحالمين في فراديس الضياع ... وسط هذا الكم الهائل من الركام المعرفي تصبح قليلة هي الصور التي تغمرنا بالدهشة ...وتأسرنا بالمحبة... "
تتعمق دهشة التنازع النفسي والجماعي لعلاقات الكائنات المتشكلة ضمن فتنة الفراغ ومشهدية المتحولات والمقاربات الصراعية بين الفرد والمحيط وتجليات ازمة ما بعد المعاصرة المستجدة، فنتساءل ابداعيا عن "مستقبل الكون : الانفجار الكبير ام الانسحاق الكبير ؟" ...اننا اليوم في رحم الازمة.
ملحق الصور:
عمل فنانة مصرية امل نصر
عمل الفنان التونسي اسلام الحاج رحومة حبر على ورق
عمل للفنان محمد سحنون
اعمال الفنانة رندة مداح
.
عمل الفنان نبيل علي
الفنان زياد غازي
الفن في زمن الكورونا 32
عمل الفنان المصري محمد أبو النجا
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع