باب المقبرة ( 1)
الأديب فتحي بن معمر(تونس)(2)
الأديب فتحي بن معمر(تونس)(2)
الحافلة - على سرعتها - تدبّ دبيب أتان جدتّه مند أربعين سنة خلت، يجلس على مقعد وثير فوق العجلات مباشرة، يسمع صريرها وهي تأكل الإسفلت وتنثر الأمتار بعيدا خلفها وخلفه. تهتز الحافلة ويرتج المقعد من حين إلى آخر، فيهتز بين نومة ويقظة، فلا يفزع. ينظر يمينا، ينظر شمالا، فيرتدّ بصره حسيرا بين نظرة جاره المشمئزّ من شخيره ربّما وبلّور النافذة المظلم. يعاوده النّوم، فيراها، تملأ الكون والفؤاد، وتملك المهجة، تملك كلّ شيء. يودّ تقبيل سيوف عنترة إذ لمعت .. يقترب من الشّفتين، تهتز الحافلة بقوة، يرتجّ الكرسيّ، يصدم رأسه البلّور، يفيق متحسّرا على ضياع القبلة في حلم سحيق.
بين إغفاءة واستفاقة تُزيح إحداهما الأخرى كما يُزيح الليلُ النهارَ يدفعه، يسائل نفسَه: تُراها تحضر في الموعد؟ أيّ موعد مجنون؟ السادسة صباحا في يوم شتائيّ قرّ...؟ يلجه الإغفاء بقوة، ويظلّ سؤاله معلّقا برقبته إلى بعث ثانٍ، ربّما يكون بعد ثوانٍ أو دقائق، أو ساعات، أو عند الوصول إلى المحطّة الأخيرة. تنهمر اليقظات رذاذا جميلا رقراقا في سماء غفوة متلبّدة بسحب الوجد وغيوم الشّوق، يراها في كلّ يقظة بإحدى صورها، صورها البهيّة التي خزّنتها ذاكرة المعجب، وشوق الصّديق المتقرّب، وانتظار المحبّ المُترب، وتزلّف العاشق المغترب عنه وعنها. تختلط عليه الصّور وتتزاحم في ظلّ الاهتزاز والأزيز فلا يكاد يميّز بين ما يراه حلما وما يراه يقظة، وهل استيقظ من غفوة الوجد منذ أن عرفها ذات يوم...؟
ينتبه إلى حركة داخل الحافلة، يحرك يده في الفضاء أمام وجهه ليزيح صورتها الرائعة كمن يزيح ستار نافذة بحذر ليرى ما يحدث، يدرك بعد برهة وهو يردّ على بسمتها بأحسن منها أنّ الحافلة قد حطّت. يُحكم تزرير معطفه، يحمل محفظته، وكيسا صغيرا كان قد حشاه عنوة بحذائه الباريسي وسرواله وحزامه الجلدي وقد كان في نيّته أن يلبسها جميعا في آخر محطّة تتوقّف فيها الحافلة قبل الوصول، ولكن هل يغادر الفردوس من يغفو وينتبه على ألبوم صورها الجميل بذاكرته؟ نزل مهرولا، فلفحه البرد، أسرع لغسل وجهه وإصلاح هندامه وتغيير سرواله الرّياضيّ وخفّه الخفيف إن وجد مكانا قصيّا يمكن له فيه أن يستبدل سروالا بسروال. لكنّه وجد الغرفة مزدحمة بأخلاط من المسافرين يأكل النّومُ وجوههم، يتغسّلون وضوءا للصّلاة أو طردا للنّوم بماء بارد مثلج. انتظر دوره، وشمّر، وتوضّأ، ونقد العامل المنظّف بنصف دينار سُمعت لوقعه في الصّحن المعدنيّ موسيقى مرائيّة.
وهو يهمّ بدخول المقهى، يرنّ الهاتف رنّة خاطفة ويعود إلى صمته المدقع كما كان في الحافلة يعود إلى غفواته بعد سنا استفاقات خاطفة. يأخذ الهاتف بحركة لا إراديّة، فقلب العاشق دليله، رقمها كان المتّصل، يطلبها بسرعة. يأتيه صوتُها نحاسيّا فيورق الفجر: سأنتظرها عند باب المقبرة، تقول متحدثّة عن صديقتها، ثمّ تضيف ستحملني معها بسيّارتها إلى حيث نسير، انتظرني هناك نتسامر قليلا في انتظارها...أيّ موعد هذا ...؟ السادسة فجرا ..؟ في يوم شتائيّ قارس...؟ أمام باب أكبر مقابر البلاد وأشهرها...
يدلق القهوة بجوفه في رشفة متلهّف ولهان، ويمضي، يقتني بسرعة المجنون لوحة شكلاطة، يسير الهوينى نحو باب المقبرة. ولكن أيّ باب يقصد وللمقبرة أكثر من باب؟، وهل تحتاج المقابر أبوابا؟، وهل رأيتم ميّتا يستأذن للدّخول إليها؟ نعم يستأذن أهلهم وذووهم ويُرهقون بالوثائق المثبة للموت وبدفع رسومات الدّفن، المقبرة نزل دائم مسبق الدّفع، لا يغادره ساكنه إلاّ يوم الحشر. يقبض على الهاتف وجلا ويعيد الطلب، ويسأل دون مقدّمات: أي باب من أبواب المقبرة تقصدين، تجيبه بحدس غير متأكد، يذهب حيث تشير. يقترب من سور المقبرة فتبدو له القبور على ضوء الفجر منضّدة متّسقة على مرمى البصر وقد التحم بياضها بخيوط الفجر والنهار الآتي على فرس أبلق جموحٍ. يغمغم: "سلام عليكم دار قوم مسلمين". يكاد يسمع جوابهم، "وعليكم السّلام" ويكاد يميّز بين أصواتهم صوت ابنه المدفون هناك "سلام عليك... لِمَ لمْ تزوروني منذ مدّة؟" ينظر إلى نفسه ويخجل، فماذا عساه يُجيب. أيفضح نفسه أكثر ويقول له إنّ إحدى أخواته المولودة بعده تشتاق لزيارة قبره لكنّه لا يستجيب لها متعلّلا بالمشاغل، مأخوذا بالعمل والبحث وهموم الدّنيا ورونقها؟، قُتِل الإنسان ما أكفره بالعلاقات! وما أقلّ وفاءه لمن يقضي تحت التّراب!
يتأمّل القبور المتراميّة، ويضحك عميقا، أيّة علاقة بين الحبّ والموت؟ موعد عند باب المقبرة، يضحك سرّا ثم يُحجم ...، يُخيّل إليه أنّهم يسمعون ضحكه، ويقهقهون، ثمّ يردّدون: "أحبّ من شئت فإنّك مفارقه". يبتعد قدر متر أو أكثر عن السّور، حتّى يكاد يقتحم الطّريق، ويردّد في سرّه "طيّب أعرف .. دعوني .. وشأني". يلفحه نسيم بارد فيتذكّر أغنيّة رقص على أنغامها ذات حفل غنّى فيه شحرور الجزيرة أغنيّة
"أحرقني الصقع، اقعدت انطل،
أنراجي في مشموم الفل..."
ثمّ يعيد المطلع مغيّرا آخره:
"أنراجي في للالات الكل"
يصمت متفاعلا مع الأغنية ويفهم لأول مرة ما معنى أن يُحرق الصّقيع عاشقا منتظرا للحبيب. فتأتي رعود قهقهاتهم عالية مرعبة، فينكمش، وينشغل بمتابعة سيّارات الأجرة التي تتوقّف من حين إلى آخر لإنزال ركّباها ويا للعجب، أمام المقبرة، وكأنّها تسخر منهم: "سافروا كما شئتم، فإليّ منهاكم في سفرتكم الأخيرة"
على ما بقي من ظلام الليّل الموشّح ببياض النّهار الحييّ، كان يراقب أطياف جميع النّساء النازلات ويتمثّل مقدار جمالهن من أطيافهنّ، وهو يتخيّل القوام وانتفاضة النهود، وتورّد الخدود وهي تُلفح بنسيم صباحي بارد، واستثارة الأطراف وهي تبحث عن الدّفء. انشغل عن المقبرة وأمواتها بدفق الحياة والجمال، فسرت في نفسه رعشة مُحيية.
رآها طيفا يتهادى، صبيّة بمعطف شبابيّ و قوام ميساء، تسارعت دقّات القلب وهي تقترب وتمازحه على بعد متر: "عرفتك منذ أن نزلت، وأنت لم تعرفني ...!" فغمغم في سرّه: وأنّى لي أن أعرف من يفعل فيه الزّمان فعلا عكسيّا فيزداد صغرا وحداثة سنّ وجمالا وتأنّقا!" قبّلها مسلّما بسرعة وهو يلاحظ انزعاجها من راكبي سيّارة الأجرة وسائقها المركّزين مع مشهد اللقاء الرّهيب، أمام باب المقبرة. بدت له مثيرة، منطلقة، مقبلة على الحياة باسمة، تتحدّى باب المقبرة، والمقابر، والموت، وتحيي الأموات. يتذكّر بعض معنى لبيت جميل بن معمر "لو أنّ رقتها تُسقى بها الموتى لانتشروا من القبر" فيضحك في سرّه من جميل وطيبته، ويخاطبه: "لماذا تريد أن تحييهم، دعهم نياما، أما مللت كثرة المزاحمين؟ " يبتسم فتلاحظ ذلك وتسأله: "لماذا تبتسم؟". "فرحا برؤيتك" يجيب ببداهة. تبتسم، فتشرق الدّنيا ويعمّ النّور المقبرة والكون والحياة، يودّ تقبيل السيوف مع عنترة مرّة أخرى، لكنّ السيّارة تتوقّف، وتشير السّائقة إليهما بالصّعود، يقفزان على مضض، والنظرات تشيّع النّظرات، يسلّمان، ويسألان عن الأحوال في ثرثرة تونسيّة محبّبة، يطلب منها أن توصله في طريقه إلى نقطة ما. تستجيب بترحاب، يدعوهما لشرب قهوة، فترفض السّائقة دون اعتذار. تنهب السيّارة الأرض، رغم أنّها تسير ببطء نسبيّا، لكنّها تأكل بعضا من أوداج القلب الممتلئ منذ لحظات بحضور الصبيّة، يبتعدون عن المقبرة، يلجون صخب الحياة، والأضواء، والمدينة التي بدأت تبوح بجمال فاتناتها المقبلات على أعمالهنّ في زينة وبهارج ممتعة. قبل النّزول يعيد اقتراح استضافتهنّ على قهوة صباحية رائقة، لكن باب المقبرة، يظل مفتوحا على مصراعيه في حرف "لا" الرافض الجامد المقيت. ينزل بسرعة مودّعا وقد باغتتهم الإشارة الضوئيّة – ما أقبحها! – يندفع بين الجموع مفعما بالحياة والأمل وهو يحتفظ بصورتها وبسمتها، بينما تتمدّد هذه الـ "لا" الرّافضة أمامه في كلّ طريق ومفترق، فيراها باب مقبرة يوصد باب الحبّ والحبور والحياة، ويفتح باب الجدّ والصّرامة والموت الحيّ.
بقلم الأديب فتحي بن معمر(تونس)
الإحالات
1- فازت القصّة في مسابقة القصّة القصيرة التي تنظّمها دار الثقافة مساكن وصالون الزوراء...فيفري 2020
2- كاتب تونسي و رئيس جمعيّة ألق الثقافية.
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع