(الجزء الثالث) زمن الكورونا وانقلاب معادلات العمل والحريّة والدّين (1)
بقلم : الناقد البشير الجلجلي(2) (تونس)
تحدّثنا في الجزء الثاني من المقال "الكورونا لحظة كشف للذّات الإنسانيّة (زيف الإنسان أو موت الإنسان المعاصر)"عن الحرب التي أعلنتها الكورونا على الإنسان ...تراه ولا يراها في حرب غير متكافئة. وهو ما يتوافق مع ما أعلنه "ميشال فوكو" في كتابه "الكلمات والأشياء" عن موت الإنسان المعاصر...وهي إشارة إلى الأفق المسدود الذي وصلت إليه الأنساق العقليّة الغربيّة ، فانفصم الإنسان المعاصر وتباعدت المسافات بينه وبين ذاته...ولم يعد إليها إلاّ نتيجة الخوف من الموت أو الجوع ...فعادت بعض أخلاقه في مساعدات بعض الدول الاشتراكية لغيرها...في المقابل بان زيف الرأسمالية التي عوّلت على الاستهلاك وأهملت قصدا حقيقة الإنسان المتغيّرة بإهمال العلم. فألغزت عليه الكورونا وبُهت وانسحب من حضارة زائفة إلى ذات هي الخلاص في بيوت مغلّقة . فخاض الصراع ضد الوهم على قول جيل دولوز في حرب جرثوميّة انقلب فيها السّحر على السّاحر.
أمّا الجزء الثالث من مقالنا الفكري( هذا المقال) فنخصصه لزمن الكورونا وانقلاب معادلات العمل والحريّة والدّين . فالعمل قيمة إنسانيّة يتمتّع بها أصحاب الحريّة...ففي زمن الكورونا انقلبت الحياة إلى عطالة بعد الحجر الصحّي لأغلب بني البشر ...أمّا قفا الحرية فهو السّجن الذي يسلب الحريّة وقيمة العمل معا....ولكن ّ الكورونا حررت السّجناء بقيمة العمل وأَسَرت الأحرار بفقدان أعمالهم بالتعويل على الجانب الميتافيزيقي للخلاص...فكيف يلجأ الإنسان إلى هذه التفاسير بحثا عن اليقين. وهل يخلق الخيال الاجتماعي بعدا تحرريا من خلال العمل من ناحيّة والمقدّس من ناحيّة أخرى؟يعتبر كارل ماركس (1818-1883) في كتابه "مخطوطات" أنّ العملَ إنساني صرف بقوله" ولكن الحيوان لا ينتج إلاّ ما يحتاج إليه مباشرة هو ونسله (...) في حين الإنسان ينتج حتى يكون متحررا"(3).فالحيوان لا ينتج إلاّ ذاته في حين أنّ الإنسان يعيد إنتاج الطبيعة حسب مقتضيات الحضارة لتحقيق حياة الإنسان النّوعيّة...ولكن الكورونا غيرت الموازين...وغيّرت العالم فجعلته يدخل الاستعجالي الكبير...في حرب غير مرئيّة الكل ضدّ الكل أو الكل ضد الوهم...فكيف حاد الإنسان عن قيمته الإنسانيّة وأدخل الكورونا إلى بوّابته وبيته وشارعه وحياته والكون بأسره؟
فلو كنّا في العصور الحجريّة لما لُمنا الإنسان لعدم تحويل الطبيعة إلى ثقافة...فقد كان يعيش أنذاك وفق منطق الرّغبة إلى الغذاء كما أملته عليه غرائزه و"حيوانيته"...وهو ما أشرنا إليه في الجزء الثاني من مقالنا في قول ابن مسكويه في كتابه "تهذيب الأخلاق"(4) ، تساوقا مع قول" ج.م.شيبارد" نقلا عن ماركس" حسب كارل ماركس هناك قيمة نشترك فيها إلى جانب اللّغة وهي الحاجة إلى الأكل"(5). ولكن بعد اكتشاف النّار والآلة وبعد ترييض الطبيعة كيف يسمح لنفسه أنْ يستهلك الطبيعة مباشرة دون تحويلها إلى ثقافة (حادثة الخفّاش)...فتصرّف على نحو جزئي كما الحيوان والحال أنّه عليه أن ينتج على نحو كلّي إنساني بعبارة ماركس...فحلّت به لعنة الحيوانيّة ونسي أنّه إنسان...أو تناسى فأهلك نفسه ونسله في العالم...
فلو صحّ أنّ الكورونا ليست مصنوعة مركّبة في الحرب الجرثوميّة...لنعتنا الإنسان بأنّه جاهل لم تعلّمه الحضارة بل لم تعلّمه إنسانيته أن يكون إنسانا. فعاد - في جشعه و عنجهيته وحبّه للسيطرة - إلى طبيعته الحيوانيّة ولكن الكورونا أعادته إلى حجمه الطبيعي إلى "خفّاشيته"... فلجأ إلى المقدّس لإنقاذه وهو الذي أمعن في كل الرّذائل قتلا وتشويها لسحر الوجود على عبارة الشّابي التونسي في "أغاني الحياة"...والصورة واقعيّة من شوارع روما مارس2020 وبعض الإيطاليين يصلّون صلاة المسلمين في الشوارع طمعا وخوفا لا اعتناقا ومحبة . ألم يخبرنا" روجي كايوا "(1913-1978) في كتابه "الإنسان والمقدّس" أنّ اللّجوء إلى الدّين هو" مزيج من الرّعب والثّقة"(6). ألم يحدّثنا " ماركيز" كذلك عن الخوف الكامن في الإنسان عندما يغادر مستعمرته ويعيش لساعات في المجهول، مجهول الفضاء وهو يركب الطائرة" الخوف من الطائرة هو أحدث أشكال الخوف ، وُجد منذ اختراع الطيران فقط ، لم يكن موجودا منذ نشأتنا"(7).وهي بعض الأدلّة على زيف الإنسان وضعفه وهو يتآمر على نفسه فغدا بطلا مضادّا(Antihero) على شاكلة أبطال المسرحيات اليونانيّة...وهو يتساوق مع ما جاء في القرآن الكريم بقوله تعالى"أَوَ لَمّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أصَبْتُمْ مِثْلَيْهاَ قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ"(8).
ونحن نحفر في الفكر الإنساني و المعتقد وجدنا أنّ الإنسان سرّ الشرور. وقد فضح فيروس كوفيد -19 الإنسان المعاصر الذي بقي دون إنسانيته...فإيطاليا تستغيث والعالم يركن إلى ركن في هاتفة ويتفرّج على سيرك كورونا...واسبانيا تلقي مرضاها على الرّصيف وفرنسا تحملهم في عربات المترو وإيران يسقطون في الشوارع جثثا وأنقلترا تقامر بهم حتى "تكورنَ" أميرها ووو...وتونس بإمكانياتها الذّاتية تقول قول ابن حورية محمود درويش "لِمَ لا نموت غدا . لِمَ العجلة؟ ألا نستطيع تجميع دموع العاشقات .للبكاء غدا"...نعم آن الأوان للشعوب "المستضعفة" أن تقوم من رمادها كطائر الفينيق بعدما احترقت لقرون باستغلال القوى الاستعماريّة الأرض والبشر والجوّ والبحر...وهو بان واضحا في الأدوار الاجتماعية للعمل من خلال الكشف عن البعد الآخر له...ومثال ذلك السّجناء في السّجون التونسيّة التي حرّرتهم الكورونا ...فرغم سجن الجدران إلاّ أنّهم لم يدّخروا جهدا في مساعدة الأطبّاء في المستشفيات بالواقيات الضروريّة إيمانا منهم أن الخيال الاجتماعي هو دعم لقدرة الفرد على تحرير أفكاره...فغدا السّجين حرّا بالعمل و أصبح الأحرار سجناء بفقدانهم لأعمالهم بالحجر الصحّي...فغدا ما نيّف 8 مليارات نسمة في السّجون...وهو أضخم رقم عرفته السّجون في العالم ...وهؤلاء السّجناء متّهمون من قبل السيّدة " الكورونا"...و"كل بريء متّهم حتى تثبت براءته" قلبا للقاعدة القانونيّة "كل متهم بريء حتى تثبت إدانته"...وتقدّم السيدة "ك" حيزا زمنيّا للاستئناف مدته 14 يوما تتجدّد حسب تنقّل السيّدة المحترمة عبر الطائرات والباخرات والغواصات والمساحات والحافلات والإدارات والعائلات والبلدان والدول...وقد تصل إلى التّعقيب والسيّدة لا تظهر...خفيّة شرطيّة تحمل سلاحا عبر لمس أو قبلة أو مصافحة...أو "عطسة" رذاذها قنابل جرثوميّة أكثر فعاليّة ممّا أُتّهم بها صدّام العراق وسوريّة ووو...والحرّ الوحيد في الشوارع العالميّة هو السيّدة "ك". فهل من قادر عليها يا أيتها العقول الالكترونيّة الفضائيّة وهي تتحداكم وحضارتكم؟
أليس السّجين هو من سجن أفكاره قبل جسده؟...فالأغنياء في الصين وإيطاليا والدول الغربيّة يؤثرون بلدانهم بالمال لا كرما حاتميّا ، فالرأسمالية لا تعترف إلا بالمردوديّة، بل خوفا على جيوبهم من كورونا السيدة الوقحة التي جاوزت جسارة" بول دي سويف" موباسون(Boule de suif) في الدفاع عن حريّة الاختيار، و وقاحة "مدام بوفاري" فلوبير(Madame Bovary)… في التّمسك بالغريب الحبيب ، في حين يتبرّع الفقراء بالأفكار والعزم...والشاهد القويّ ما تفعله المرأة الخيّاطة في البيوت التونسية وما أنجزته عاملات القيروان بالمكوث في مصنع النسيج حجرا للذات لمساعدة الأطبّاء بالواقيات...ألم يكن الشاعر الفذ محمد الصغير أولاد أحمد على حق حين قال" نساء بلادي نساء ونصف" ...ألا يقدّم هذا درسا لعزم الفرد على تغيير واقعه كي لا يظل يأكل ويلبس ويتداوى من وراء البحار...فلا خير في شعب يفعل هذا ويعوّل على غيرة والوطن يلد النّساء والرّجال ...
يقف العالم اليوم مشدوها أمام تضحيّات الأطباء بعد موت مكتشف الكورونا الطبيب الصيني خوفا لا مرضا...ويموت الأطباء وهم في ساحة المعركة( أكثر من50 طبيبا إيطاليا)...بلباسهم الملائكي ورائحتهم الزكيّة التي تعود رأسا إلى أوّل طبيبة تونسيّة " توحيدة بن الشيخ" أصيلة رأس الجبل-بنزرت..(1909- 2010) و التي أصبحت صورتها على المعاملات الماليّة التّونسية تكريما للأيادي البيضاء للأطباء ...فهم حياة هذه الحياة ...يعملون في زمن عطالة الحياة يعضدهم في تونس المهندسون مكتشفو جهاز التّنفس الصناعي والكمامات الصّناعيّة بالمدرسة العليا للهندسة بصفاقس وسوسة بمساعدة أساتذة جامعيين...فالحاجة أمّ الاختراع...والبقاء للعلم... فالعلم درجات والوعي مراتب على قوله تعالى "وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ"(9).
فلو اعتبر الإنسان من ضعفه وخوفه...لما عاد إلى رحلة الجشع والقتل...وأنا على يقين أنّ شوارع العالم ما بعد كورونا ستكتظ وتعود الحياة إلى ضجيجها والشوارع إلى تلوّثها و الحياة إلى سالف عهدها...فمن نجا من كورونا لا لأنّه شجاع ولكن لأنّ الطبيعة أعطته فرصة أخرى لبحث عن إنسانيته الكامنه فيه...
تبقى مسألة الحرية والعمل والدّين من المسائل الشائكة لطبيعة الإنسان الزئبقيّة...وهي محاور تخصّ الإنسان وترتّب حياته الطبيعية وما بعد الطبيعة...لكنّ الذي حيّر أصحاب الفكر في تحليل زمن الكورونا هو العودة القويّة للإله اعتبارا أنّ الإنسان شقيّ دون إله...متناسين أنّ الإيمان مقرون بالعمل في الديانات السماويّة...فهل بتعطّل آلة العمل تمطر السّماء ذهبا؟ أو أنّ الإنسان يصبح شقيّا دون عمل؟ تابعونا في الجزء الرابع من المقال ، مقال زمن الكورونا.
بقلم الناقد البشير الجلجلي ( تونس)
bechirjeljli@hotmail.fr
المراجع
- هذا الجزء الثالث من المقال
2 - البشير الجلجلي : ناقد و أستاذ و باحث جامعي تونسي مختصّ في البحوث السّرديّة.
3- لمزيد التّوسع اُنظر،K.Marx , Manuscrits de 1844, Collection de la Pléiade ,T.2 , 1968,PP.63.
4 - ابن مسكويه ، تهذيب الأخلاق ، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده بالأزهر ،مصر، د.ت،ص.57.يقول:"قد قلنا فيما تقدّم أنّ أوّل قوّة تظهر في الإنسان وأوّل ما يتكوّن هي القوّة التي يشتاق بها إلى الغذاء الذي هو سبب كونه حيّا"
5- اُنظر،J.M.Shepard , Sociology , West publishing company , N.Y , W.D.P.18
6- لمزيد التّوسع اُنظر،R.Caillois, L Homme et le Sacré, ed.Gallimard, Paris ,1963,P.21.
7 -غابريل غارسيا ماركيز، كيف تُكتب الرّواية، ترجمة صالح علماني، الأهالي للطّباعة والنّشر والتّوزيع، دمشق ، 2000، ص 45.
8- آل عمران 165.
9- سورة الزخرف 32.
بقلم الناقد البشير الجلجلي ( تونس)
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع