في ليالي الشتاء...حين يمطر الغيم و بعده يغزو الصقيع القرى النائيهْ....
يحاصر غرفة جدي الجليد ،و لما تطول به الوحدةُ القاتمه ...
ينادي بأعلى النداءْ :
" تعالوا تعِبتْ
عليكم إليّ ببعض الثريدِ....
فإني احب ثريد الشتاء !!
و جدّي الذي لم يَرَ في الحياةِ ربيعا ...عاش طفلا يتيما...
و لما استوى عوده كي يصير فتى يافعا و قوي المراس ادركته حروب القبائل... فغامر بالعمر ..ثم راح يقاتل من لا عداء له معه سوى أن من غرروا أقنعوه بأنه إن لم يقاتل سيُقتَل ..
و أنه في الحرب قاتلٌ او قتيل...
في الحرب ؛ قاتلْ.....!!! و قاتل ..و قاتل ...
كن قاتلا لا خيار..و إلا ؛ فانك أنت القتيل.
ليس بوسعك ان تكون سواها. ...فإما هنا انت و إما هناك..
إذا الحرب ، دارت رحاها فلا تستدر خلفك ..لا احد سوف يحمي لك صدرك ..
فلتقاتل..
و إن سقط من يديك الزناد فخذ خنجرا ...خذ حجرا. ...
خذ ما ادركته يداك ....
ثم اِرم !!
و ما انت رامٍ و لكن حتفك سوف يرمي ، لكي لا تروم الردى..
و كي لا تكون الشهيد...
، و ساعتها يكتبون على قبرك " كان هنا بيننا ثم مات "
سوف يخط الرخامي على شاهدة القبر هذا الكلام:
" هنا سينام شهيد الوطنْ......
و كان شهيد القبيله..
وكان شهيد الشرف. "
و تعرف يا طفل ان للشرف في الحياة دمًا سيُراق..
فكن شرفا للقبيله...كن شرفا للرفاق.
فقبلك لا شيء كان غير وهم الجدود و بعض النفاق
في الحرب ما من غنائم غير جرح يغور باعماقك يالشهيد.
غير ان من غرروا بغزلان هذي البلاد حتى يغامروا ليلا و يندثروا في الوغى ..قالوا لهم إن غايتهم سبر اغوار هذا الوجود ...و ان موت الفتى خلف غمدالسيوف غنيمة و وسام و شال يحط علر شرف الخلفاء..
يقول الرواة بان الذين لقَوْا على صهوة الخيل ما كانوا ابدا جبناء. ..لكنهم لم يكونوا فوارس نَقْعٍ.. فراحوا هباء !!!
.....
في البلاد البعيده......
يؤرخ شيخ المدينةِ بالموت ...حيث يقول :
" في عام موت فلان..كانت الشمس غائمة كل يوم
و كانت اشعتها لا تطيل البقاء...
و في الليل يختبيء البدر ...كان يطل قليلا ليخبو ضياؤه عنا ....
و حتى النجوم تخاتلنا بالغياب ..ثم تغادرنا باكرا كي يعم الخواء..
...........
في البلاد البعيده...إذا الليل ارخى ستائره الداكنه ، تعوي ذئاب ترابط أعلى الجبل ..
فيحسبها الراعي جاءت تخاتل منه القطيع ...فيصرخ في الليل ...يعوي كذئب ،: فتعوي الذئاب و قد أدركت ما يريدْ..
كلاهما ذئب ، ليفهم الذئب ذئبا مسافر...
و لكن راعي الشياه ..و قد خبر الذئب دهرا طويلا..يعلم انه لا يغادر دون غدر ...فيغدو ..يعد الشياه القليلة عدا كثيرَا... فلا يلقى نقصا بها....لكنه يستمر يعد ، يعد إلى ان يتوه به العد و التعتعات و بعدها يمسح كتف الكلب ؛ يشكره -ربما-...و ربما يستجدي منه البقاء على حافة السَهَر و اليقين..
يدرك الكلب انها فرصته كي يصحح بعض المسارات..أو يكفر عن خطايا قديمه....يهز بذيله كي يهش على الشاة و هي تراقب باب الزريبه...ربما فكرت بالتسلل خلسة للرحيل.. فالشاة يغريها ان تغادر في الغيم اغلال ذاك القطيع المهادن..
ينتبه الكلب ..فهو كلب من صلب كلب و جده كلب.
يقرأ في نوايا الزريبه...و يستبق سوء ظن النعاج...و يفترض حسن بعض نوايا مولاه في الليلة المظلمه ...
و في الليلة المظلمه ، حين نفتقد القمر...نفتقد الامن و الامنيات...و عندئذ نستعيض بكلب ليحرسنا و القطيع...و نحرسه حين نخترق الصمت بالأغنيات..
يدرك الكلب -دفعةً واحده -كل هذا...و يذكر أمه حين أوصته أن الرعاة لا يأمنون كلبا و ذئبا و إن اظهرا الإختلاف و ساد العداء..،فلا شيء في الظاهر مستباح ... إلا إذا قتل منهما الواحد الآخر و استراح ...
يدرك الكلب معنى جوع الذئاب...و معنى ألا تهاجم ظَهر الزريبه برغم الطوى....فتلك هي السنواتُ العجاف..حيث لا شيء يأكل من ظهر شيء..و لا شيء يسندهى ظهر شيء..
عن السنوات العجاف..يحدث جدي -فمازال يذكر عنها الكثير- لم يكن وقتها شامخا و لا سامقا..كان منتصف العمر ..و العمر لا يستطيع العبور الى الضفة الاخرى كي يكتوي بالنوى و العدم...
كانت الريح اعوامها لا تريد الهبوب .. .
لم تكن في البلاد عواصف...
لم تكن هناك ثلوج..
.و لا جليد يغطي اديم الثرى في الصباح..
كل شيء يلوح سقيما..سئيما ...و كان الغمام يغطي الافقْ...
كان الصنوبر مثل نافذة ليس يطرقها الضوء..خاوية ..
و الوادي يخبو ...ذليلا ..كقط هُدت مخالبه ...فناء به العمر نحو الضياع.
كانت قوافل طير الحبارى...و القبرات تشد الرحال بلا امل في الرجوع ...فما من ربيع سياتي ..و ما من شتاءٍ ..و ما من مطر ..!!!!
كانت جيوش الجراد ...تزحف في حشود طويله الى ما وراء الغمام..كمثل الغيوم الكثيره...
يواصل جدي الحديث "
في السنوات العجاف...نجوع ...لكننا لم نقاتل و لم نتقاتل..و لم نخلف الوصل و الوعد و العروة الوثقى..و كنا كحبل الوريد...
هي السنوات عجاف ..جفاف ...و جوع
و كان الذي سافر.....لا يأمل في الرجوع
و كان الذي كلما نام ...ليس يدركه حلمه في الهجوع...
......
في البلاد البعيده....
يذكر جدي بأن الذين سافروا ها هناك...تأتي اخبارهم غامضه...
تقول التفاصيل انهم صامدون هناك..
.رغم شوق الاحبة...
رغم طول الليالي ...و رغم ضيق الرؤى ...صامدون
رغم رغبتهم في الرجوع...و غمرة تلك السحابات من صور الغائبين..
رغم غائلة الشوق....رغم انهيار المطامح و انهيار الدموع..
رغم ارتواء الوسادات ليلا ..بدمع المآقي..هنالك ظلوا بغربتهم صامدين..
هناك حياة هناك....و موت هنا
هناك حنين...و اهل هنا
و ما بين نار و نار ..و بين احتراق الضلوع..و بين احتباس الرجا
تقف الروح هائمة.. لا تروح ..تراوح بين امتداد الطموح...و بين انسداد الرؤى..
------------
شرادي جمال
متابعة / سهام بن حمودة
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع