كانت الغيمات شاردة في هذا الصباح تمخض عباب السماء وتحجب في تحد بريق الشمس. جلست البنت في المقعد الأمامي كعادتها. وأرسلت بصرها ترقب المشهد وقد تجهم وجهها.
لقد خشيت أن تفسد رحلتها بسبب أوضاع الطقس.
_ مالك شاردة على غير عادتك؟
تفاجأت الصغيرة. واستدارت جزعة وقد اهتزت جدائلها المعقودة بشريط أحمر. رسمت ابتسامة باهتة على وجهها البريء وأجابت معلمها بسذاجة:
_ السماء ستمطر يا سيدي.
تهلل وجه المعلم فداعب شعرها وهو يردد:
_ صاحبة البشائر أنت. الحمد لله. أمطار الربيع ذهب خالص.
باغتها جوابه. همت أن تعترض.. أن تخبره أن الأمطار قد تفسد رحلتها. لكنها صمتت. وعادت للدرس بعد أن أشركها المعلم في النقاش. كان يرفع صورة رسمها بريشته تجمع الصرار باكيا والنملة متنمّرة أمام مسكنها تحمي قمحها وترفع سبابة الرفض في وجهه . حمي النقاش بين أريج و أصحابها. استأسدت في الدفاع عن رأيها كانت ترفض الخمول. وتؤيد النملة. لابد من العمل لننعم بلذة الراحة. ولابد أن نعاقب الكسول. أمارفاقها فقد رقّت قلوبهم لمصير الصرار في هذا الشتاء البارد. عبثا حاول المعلم أن يقنعها أن الغناء ضرورة للحياة. لكن حججه تكسرت على جدار عنادها...رن الجرس فغادر الجميع إلا أريج. فقد ناداها المعلم. ودسّ في يدها قطعة من الحلوى. وابتسم في وجهها قائلا:
-تروقني أفكارك ستكونين محامية أو أديبة.
نظرت في عينيه المتوهجتين. وبادلته الابتسام والمحبة. واختطفت قطعة الحلوى. وخرجت تعدو خوف أن تتأخر عن موعدالسفر. إن العائلة ستغادر إلى الريف لحضور زفاف أحد الأقارب. أدركت العائلة. وسافرت معها. وأمضت ثلاثة أيام تلهو ترقص وتغني و كأن الدنيا تفتح لها أبواب الطوبى. مضت الأيام سريعا...وحل موعد الدرس. دلفت البنت بنزق إلى القاعة مزهوة بثوبها الجديد. واقتعدت في مكانها. وأخرجت أقلامها وكراساتها. وبغتة نزل عليها سؤال المعلم نزول الصاعقة :
_أين اختفيت يا أريج؟ لقد تركت فراغا كبيرا في غيابك. تلكأت في الإجابة وتاهت الحروف على شفتيها . وشردت عنها المفردات . ماذا ستقول؟ لقد كانت تلعب و ترقص وتغني وأصحابها يعملون! أليس هذا ماكان يفعله الصرار؟ أليس هذا مناقضا لموقفها الذي أبهر معلمها؟فجأة اكتشفت هول ما فعلت. وكان لابد لها مخرج.
- لقد كنت مريضة بالحمى فلازمت الفراش.
لاتعرف ألى اليوم كيف نطقت تلك الجملة. ولاتصدق أنها كذبت على معلمها. أي حماقة ارتكبت؟ أكيد سيكتشف أمرها. وستفقد احترامه. ولكن شيئا من ذلك لم يحصل. لطالما تمنت لو أن الأسوأ حصل يومها. ولكن كيف لأصحاب القلوب الرحيمة أن يشككوا في براءة الطفولة. لقدصدق المعلم الطيب قصة أريج. وارتسم الجزع على محياه. واتسعت حدقتا عينيه. وسارع يمرر يده بكل ما في العالم من حنوّ على جبينها يتفقد حرارتها. حتى إذا اطمأن سحب يده اليمنى وربّت بها على على كتفيها. أما يده اليسرى فقد امتدت إلى الضفيرتين تشاكسهما. مضت الحصة ثقيلة على غير العادة. كان السيد محمد يرقب فيها أريج. لم تغفلها عيناه لحظة. كان يخشى أن يعاودها المرض. لقد لامها على حضورها. وقبل الخروج رجاها أن ترتاح ولأن الامتحانات على الأبواب طمأنها أنه سيزورهاوسيفسر لها ما فاتها من درس. لم تضحك كعادتها. اصفر وجهها. وتفصد العرق من جبينها. لقد كان عذب كلامه سكينا يمزق أوصالها. أي كائن هذا؟إنها تعرف رقته وحبه لتلاميذه. وتدرك عشق الصغار له. لكنها أبدا لم تتوقعه على هذه الدرجة من الطيبة وحسن السجية. وكأنها تعيد اكتشافه من جديد. وبقدر ما تلمس فيه من طهر ونقاء تقف على فظاعة وفداحة جرمها في حقه. عبثا حاولت في الأيام الموالية الهروب من عينيه. كان كالحارس الأمين كلما ابتعدت عنه اقترب منها. وأخيرا قررت أن تعترف له علها تتخفف من وزر خطيئتها. لكنها لم تجد القوة لتفعل. مر أسبوع وحل موعد الامتحانات. فانشغلت بفروضها ولكنها لم تشغلها عن فكرة الاعتراف. أعلنت النتائج وكانت كعادتها من المتميزين. ولم تستطع يوم الحفل المدرسي الهروب من عيني ملاكها. فقد حرص أن يسلمها جائزتها بيديه. ولم ينس أن يهمس في أذنها سائلا عن صحتها متمنيا سلامتها. مرة أخرى تذبحها سجيته. ويقتلها زيفها. عادت إلى المنزل تجر قدميها جرا. لم يفهم أهلها سر حزنها. ثم شغلتهم الفرحة بالجائزة. فانشغلوا عنها. وكان لابد لعذابها من نهاية. لقد قررت أن تكتب لمعلمها رسالة اعتذار تكشف له فيها الحقيقة وتعتذر منه وتطلب صفحه. وهو لابد أن يغفر زلتها. فقلبه كما خبرته أرحب من طيشها وأرق من جَرحها. أمضت صيفها تنضد الكلام وتنمقه. وتخطه في رسالتها. ثم زانتها بأزهى الألوان وأشذى الورود وأرق القلوب. وسكبت عليها عطرا فواحا. ولما اطمأنت للنتيجة التي وصلت لهاوأبهرتها رسالتها طوتها وخبأتها في دفاترها. فلم يبق من العطلة إلا أيام قلائل.
أزف أوان العودة فكانت أول من حضر للمدرسة. راجعت رسالتها. ثم دستها بين الأوراق. ووقفت تتفقد المربين لعلها تلمح من شغل خاطرها. لم تبرح عيناها قاعة الصف الأول. لكن سيدها الجديد حضر أولا وأمرهم بالدخول كانت كمن يجلس فوق فوهة بركان.لم تستلذ عودتها. ولم تتفيأ أنس الرفاق والصحاب كعادتها. الوقت يمر بطيئا. أي امتحان هذا؟أكيد سيقرأ اعترافها وسيسامحها. لن تسامح نفسها قبل أن يفعل. لم ترتح يومها لمرأى معلمها الجديد سي فتحي ماله واجم كأنه يحمل أوزارا؟ أين هو من سي محمد الضحوك الرقيق الفنان المرح الحركي. كان كالنحلة لايهدأ ولايلين . لكم شدها وهي تلاحقه بعينيها. لكن ماذا يحصل اليوم؟ لم لاينطق معلمها الجديد؟ الحمد لله هاهو يقف..يفرك يديه.. يحدق فيهم.. في السقف.. يهم بالكلام ولا يتكلم. الأبصار مشرئبة تروم أن تكتشف هذا المجهول. أخيرا استجمع حروفه وكون جملة غير مفيدة.. جملة لن تنساها.. لقد أصيب سيدكم محمد في حادث مرور ومات. أي قدر أحمق هذا الذي يختار فيه عزرائيل من البشر أخيرهم وأطيبهم. أيموت على سجيته؟ ألن يقرأ اعتذاري؟ لا يارب لا تأخذه قبل أن أراه. صاحت أريج صيحة هزت أركان المدرسة. هرعت على غير هدى إلى الساحة تتصفح الوجوه. تبحث عن وجه ألفته. تناهى إلى سمعها نحيب أصحابها. جنت المسكينة. كانت تجرى وتدور وتصرخ ليس الآن.. ليس قبل أن أعتذر وتقبل اعتذاري. حاول الجميع تهدئتها ولكنها لم تهدأ.. أعادوها إلى بيتها. لا أحد أدرك سرها وفهم حالها. أمضت أياما لم تبرح فيها غرفتها. كانت تتفقد رسالتها كل ليلة. وبعد أن ينام الجميع تفردها أمامها وتغرق في بحر دموعها. وبعد أسبوع قررت العودة. رن الجرس. فدخل التلاميذ إلا أريج. كانت خطاها تقودها إلى المقبرة ويداها تتفقد رسالة الاعتذار. اليوم ستقرؤها له. "سيدي محمد أحبك كثيرا. أرجوك. سامحني. لقدأخطأت في حقك. واستغللت طيبتك وسذاجتك. فقد كنت تصدقنا دائما. وصدقت مرضي. أنا كذبت عليك لقد حضرت حفل زفاف. ولكنني ندمت. والله العظيم ندمت لن أكرر هذا الفعل الشنيع مرة أخرى. فهل سامحتني؟ سيدي لقد صرت أحب في الصرار فنّه .. سيدي أعدك سأعمل كالنملة وسأكون محامية أو أديبة كما توقعت فهل سامحتني؟ فأنا أحبك وأنت بحسن سجيتك أهل لكل حب؟" ترجحت من مقلتيها دموع رقراقةبللت الورقة. فطوتها بيدين مرتعشتين وأسكنتها القبر. وغمرتها بالتراب. ثم غادت وهي تردد" اليوم قرأت لك الرسالة ويوم الحساب سأعرف جوابك" امتدت يدها تكفكف دمعها. وسارت حتى توارى طيفها.
--------
سلوى البحري صفاقس تونس 1 /2019/08 الثالثة فجرا
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع