قصة قصيرة
" حن على القله ده الغريب حن "
في العمارة المصرية القديمة ، كان يراعى في تصميم البيوت عدم وجود فتحات على الشارع " بلكونات" مباشرة أو شبابيك تفتح ، حتى لا يجرح البيت وأهله وكان تصميم المشربية يراعي هذا ، مع وجود منافذ على الشارع تدخل الشمس والهواء ، والمصريين كانوا يلجأون إلى القلل القناوي لشرب الماء "نسبةً إلى أن صناعة أفضل هذه القلل يأتي من طينة من بلدة قنا في صعيد مصر" ، وعادة توضع هذه القلل في صنية ، وتترك خارج المشربية على حامل حتى تتعرض لتيارات الهواء التي تبخر الماء من سطح القلل وتسبب برودة لهذا الماء ، وتصبح في اليوم الحار ماءً تروي ببرودة لا تؤذي كما الماء المثلج من الثلاجات اليوم ، والمصريين كانوا يتفننون بوضع عيدان وأوراق النعناع والريحان في القلل أيضاً ، فتعطي نكهة محببه للماء كما يوضع الليمون في الصنية للرائحة الطيبة ، وعند المصريين ثقافة أن أفضل أعمال الخير هو أن تروي عطشان ، ودائماً في ثقافة المصريين أن جبريل عليه السلام كان يقول "أتمنى أن أكون من أمة محمد ﷺ وأكون ساقي ماء" ، لذلك في المشربيات التي في الأدوار الأرضية والتي يمكن أن يطولها المارة كان لا حرج من أن يأخذ أي مار إذا عطش القله التي يطولها ليشرب منها بالهناء والشفاء ، ومن خلف المشربية عادة تقف النساء للنظر للشارع والماريين فيه وهذا في أوقات الفراغ ، وبطولة القصة هنية بنت عبده أفندي الموظف في وزارة العدل ، حيث كان هذا الزمان الأفاضل فيه هم موظفي الحكومه حيث عمل ثابت وراتب ثابت ، أيضاً في هذا الزمان كان القليل من النقود يأتي بكل إحتياجات الأسرة ، كانت هنية تقف كل يوم في ساعة العصاري تشم الهواء من وراء المشربية في شقتها الموجوده في الدور الأرضي من البيت ، وتتفنن في تزين صنية القلل التي تزينها أوراق النعناع والمغطاة بأغطية من النحاس الأصفر اللأمع والذي تلمعه بقشر الليمون يومياً حتى يظل لمعانه يأخذ العيون ، كانت قد أتمت هذا العام التعليم وحصلت على الإعدادية وجلست في البيت إنتظاراً لإبن الحلال ، فالبنات مصيرها الزواج تعلمت أم لم تتعلم هكذا كان السائد في أغلب البيوتات هذا الزمان ، وداعب قلبها الصغير حب سي محمد الذي يعمل مدرساً في المدرسة الإبتدائية الموجودة في الحي الذي تسكن هي فيه ، ويقيم سي محمد في شقة في آخر دور في بيتها ، كانت تنتظر مروره أمام المشربية ، لعله يفعل فعل الكثيرين مرة ، أي أن يقف ويأخذ إحدى القلل ليشرب ويملئ هو بطنه بالماء وتملئ هي عيناها منه ، وكان هذا هو كل ما يسعد العاشقة الصغيرة يوم أن كان العشق نظرات حتى الزواج ، ولكنها لم تنعم بهذا الفعل ، فكانت كلما رأته يدخل البيت تسرع لفتح باب البيت لتخرج صفيحة الزبالة حتى تتمتع برؤيته ولعله ينظر إليها ، ولكن في هذا الزمان كان الرجال لا ينظرون إلى النساء بل إذا رأى رجل إمرأة نظر بعيناه إلى الأرض إحتراماً وتقديراً ، وهذا ما كان يحدث عادة ، وفي يوم من الأيام مر سي محمد من أمام المشربية وهي متخفيه وراءها إنتظاراً لرؤيته ، وقد غلبها الشوق وقبل أن يمر قالت بصوتٍ مسموع " حن على القله ده الغريب حن "
------
ا.د/ محمد موسى
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع