ضاقت بنا المدينة أنا ونفسي فالصّخب الأصمّ مااٌنفكّ يهمس في أذني:"رحل الهدوء منذ سنين ورافقته السّكينة،لقد اٌختارا الحياة بعيدا في أعالي الجبال،فالنّسور لا تعيش في الأسفل مع الحشرات المنبوذة... قَرَّرْتُ أن ألتحق بالهدوء والسّكينة بعيدا عن الضّوضاء،بعيدا عن الضّجيج،بعيدا عن فوضى بدت لي أنّها لن تنتهي قريبا... هل أسافر خارج أرضي حيث ينعم البشر بحياة سرقوها منّا؟ هل أزور مُدُنًا لا ترى فينا إلا عُمْلَةً صعبة يزدهر بها اقتصادها؟ سأرحل من أرضي إلى أرضي... -سَأَلْتُ الغيمة بعد أن اٌعْتَلَيُتُهَا:"أين سَتُرْسِينَ بي؟" -فأجابت:"سنذهب إلى ابنة من بنات التّاريخ التي ظلّت شامخة رغم الإقصاء والتّهميش والتّجاهل،..وهل يحتاج العظماء إلى تمجيد من الجهلة والأنذال!!!". وصلنا إلى مقصدنا في لمح البصر،فوَجَدْتُ عالما سحريّا،عالما لا ينتمي إليه كلّ البشر،عالما تجاوز الزّمان وظلّ ثابتا،شاهدا على مَنْ مرّوا من هنا وتركوا صرح الخلود يروي أخبارهم،لكنّ أبناءهم تنكّروا لهم واٌرتموا في أحضان الأعداء... وَجَدْتُ الهدوء يقف أمام ابنة التّاريخ العظيمة مُرَحِِّبًا بنا،طلب منّي الصّعودَ إلى الأعلى،وأخبرني أنّ السّكينة في انتظارنا،... صَعِدْنَا حوالي 1271مترا عبر سلّم منحوت في شكل درجات دون أن نشعر بالتّعب... هانحن نقف -أنا ونفسي- ويُحيط بنا الهدوء وعائلته،..وقفنا جميعا فوق المكان العظيم،ذاك الموقع الطّبيعيّ الذي تخلّى عن انتسابه إلى الطّبيعة لِيَتَشَبّثَ بانتسابه إلى التّاريخ... -خَاطَبْتُ نفسي:"أين نحن الآن؟" -أجبتها:"نحن نقف فوق طاولة عجيبة تتجاوز مساحتها 80هكتارا،لقد نحتها القدر من صخور ترسّبيّة سميكة،..هانحن الآن فوقها نتوسّط الهضاب الجبليّة الصّخرية المنيعة،..هانحن نُطِلُّ على سهول خلّابة تجاهلها سماسرة السّياحة،وكأنّ البحر ملك الطّبيعة في أرضنا،..هانحن على"مائدة يوغرطة"،تلك الرّائعة التّاريخيّة التي اختارها لنا القدر اليوم لِنَشْرَبَ نخب الحضارة في حضرة الهدوء الذي أقام مملكة عليها،...اِختار الهدوء أن يعيش في الشّمال الغربيّ بأرضنا لِيَبْقَى شامخا شموخ مدينة الكاف التي حَظِيَتْ منطقة من مناطقها العريقة بهذه المائدة العجيبة"... "مائدة يوغرطة"(يوجرثن)تلك الحسناء التي تغزّل بها المؤرّخون لجمالها مؤكّدين أنّ تركيبتها الطّبيعيّة هي التي صنعت أمجادنا،فهي نجد جبليّ يقع بين قرية"قلعة سنان"وقرية"القلعة الخصباء"... حين تَجَوَّلْتُ فوق هذه المائدة لَمَحْتُ القائد الأمازيغيّ "يوغرطة"جالسا وقد اتّخذها قلعة حصينة في حروبه ضدّ روما،...وبعد قرون احتمى بها الأمازيغ من جديد خلال الغزو الأموي بقيادة"موسى بن نصير"...وتَعَاقَبَتْ الأعوام لِتُصْبِحَ المائدة ملجأ لكلّ خارج عن السّلطة... جَلَسْتُ فوق مائدتي العجيبة فنَسِيتُ الكون،وأهداني الهدوء قهوة في إناء من فخار شرب فيه أجدادي ذات قرن من القرون الضّاربة في القدم،... سَافَرْتُ بعيدا ونفسي في فضاء رحب يُحيط بالمائدة العجيية فتناهى إلى سمعي صليل السّلاح وانتشتْ أذني بصهيل الخيول،...ثمّ أَطَلَّتْ فاتنة حلّاها وشم بين عينيها العسليّتين،إنّها السّكينة التي هَرَبَتْ من المدينة،خاطبتني قائلة:"هلّا رَحَلْتِ الآن عن جزيرتنا الصّخرية،لن تتحمّلي الحياة بيننا،سَنُهْدِيكِ بعضا من حكمة الماضي المجيد،...لقد قال سيّد المكان يوغرطة:"روما للبيع،من يشتريها"...اِحْفَظِي هذا القول جيّدا وعُودِي إلى مدينتك وتشبّثِي بأرضكِ وتمسّكِي بالحياة،...ويوما ما ستنقلبُ الأمور لِتعود إلى نصابها،لِنشتريَ أنفسنا ونبيع روما كما باعها يوغرطة العظيم وهي في أوج مجدها وقوّتها"... عُدْتُ إلى المدينة وقد تَحَصّنْتُ بقهوة ماؤها الهدوء والسّكينة بعد أن عَاهَدْتُ نفسي قائلة:"يجبُ أن نكون"أنانا"،فلنا في التّاريخ عِبَرُُ عَلَّمَتْنَا الكرامة والشّموخ والإباء...
_________
ليلى كافي/ تونس
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع