كانت يسرى تجلس وحيدة في قصر فسيح خلا إلا منها و من أنفاس قطتها تتمطى قبالتها في دعة.كانت تترشف قهوة يتيمة السكر و هي تمسك هاتفها الخلوي تتأمل جدارها الافتراضي ؛لا هي تقرأ و لا هي تتابع منشورات صديقها الغامض ،فقط تغلقه بعصبية ثم سرعان ما تعود لتفتحه لتقرأ آخررسالة منه قد حفظتها عن ظهر قلب :"يجب أن نلتقي لنضع النقاط على الأحرف. لم يبق لي متسع من الوقت و قبل سفري يجب أن تثبتي لي إن كنت أهلا لحبي. أعشقك ❤."
رمت الهاتف على الأريكة بحنق و انتابها خوف ألقمها لعاصفة غضب جارف سيطر على كل كيانها للحظات كانت كافية لتكسر كل ما وقع تحت ناظريها و يديها من تحف باهظة الثمن و مرايا و أدوات زينة سئمتها.حتى فنجانها ،رفيق وحدتها لم يسلم من موجة عاتية أفقدتها توازنها المعهود فتهشم آزفا نهاية رحلة عذابات أرقتها .
كانت تكتم صيحات قلب مثقوب اهترأ نزفا حتى صار كقطعة أثاث أثرية نخرها السوس و الدموع تنهمر لتبلل شفتيها بملح سنوات عجاف قضتها على هامش زوج مستهتر يقتطع لها بضع ليلة كلما تذكر أنه ترك زوجة على بعد شمعتين من الأربعين و هو الثري الستيني المتصابي .و لم يخرجها من حالة الاحتضار تلك سوى ولوجها الفضاء الأزرق الذي أضحى متنفسا لها بعد أن فارقت الابتسامة محياها و اعتراها انكسار لخذلان رجل لم تختره؛ كان يستعمل النساء كما القمصان المستوردة من أفخم المحلات العالمية؛ و لقسوة أم سلمتها له ببرود آناء صفقة لتكون ابنتها قربانا لأطماعها و لتبعدها عن حب حياتها الذي لم يكن بمستوى تطلعاتها .فوجدت يسرى الرفقة و السلوى في الفضاء الافتراضي و كان صديقها أسعد بلسما لجروح أثخنت روحها فكانت تحدثه عن مواجعها دون تحفظ و تتقاسم معه لحظات سعادة أصبح عنوانها و مصدرها مذ بات يسكن قلبها و قد أيقظ فيها عناقيد توق و فرح و رغبة جامحة في حياة جديدة .
لبست فستانا أحمر كانت قد ركنته في آخر خزانتها منذ قدمه لها زوجها في عيد ميلادها. و تزينت و تعطرت ثم ركبت سيارتها و انطلقت خارجا . كانت تقود برعونة مراهقة أسرعت لأول لقاء غرامي لها ؛و الشوارع تفتح ذراعيها لتستقبل جنون خطوات أقدمت عليها في غفلة من نفسها و من الزمن .ضغطت زر المسجل لينبعث صوت فيروز الحالم صادحا بكلمات أغنيتها المفضلة :"حبيتك بالصيف ؛حبيتك بالشتا .و عيونك بالصيف و عيون الشتا …"
بدأت السيارة تشق ضباب الخريف المتناثر كندف ثلج أبيض و الليل يلقي سدوله على كتف الاصيل الهارب و أنغام مطربتها المفضلة يهدهد مسافة الشوق الى حبيبها فتلوح لها صبية يافعة بضفيرتين استعارتا من السنابل لونها قد ركبت دراجتها لتسرع لمقابلة صديق الدراسة وهي تضم دفترا خط عليه أشعارا حفظها لأبن زيدون يصف فيها ولادة الحب كما كان يلقبها رفيقها الصبي العاشق .ابتسمت لهذه الذكريات التي جالت بخاطرها وهي تبحث عن مكان لتركن سيارتها وانتفضت حين التفاتة الى الكرسي الخلفي كمن لدغتها عقرب عندما رأت علبة بخاخ الدواء الذي يستعمله صغيرها الذي لم يطفىء بعد شمعته الرابعة كلما انتابته نوبة ربوحادة لازمته منذ ولادته و لم يكن يكدر صفوها غيره و هي تفكر في مصيره دونها .
أنبت نفسها بشدة و صرير نبضها يكاد يطبق على أنفاسها و هي تقول :"كيف لي أن أنسى فلذة كبدي؟ منذ متى أصبحت أنانية كأمي؟مالذي دهاني لأنجرف وراء حب مستحيل ؟" ماذا دهاني لأخوض مغامرة قد تخليت عن العقل فيها و ألقيت كل أسلحتي صاغرة ،مرحبة ؟"
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع