صوت يُحاول اختراق نافذتي التي أحكمتُ إغلاقها قبل أن أنام لأنّني لا أثق في الظّلام،فهو صديق وفيّ لأفكار مُزعجة قد تخترق ذهني وتمنع عنّي النّوم... -فجرا هَمَسَتْ أذني لعقلي:"اِنْهَضْ فهناك من يقف خلف النّافذة، لقد سمعته منذ لحظات يجوب الحديقة جيئة وذهابا لِيستقرّ أخيرا قرب النّافذة"... -هَمَسَتْ لي نفسي:"اِنهضي،هناك خطب ما قرب النّافذة،لقد اكتشفَتْه أذنكِ اليُسرى فاليُمنى كعادتها لازالت تغطّ في نوم عميق،لا تنتبه إلا إلى صوت فيروز حين يصل إليها مُتغنّيا بصباح جديد"... جَلَسْتُ على كرسيّ وقد اقترب منّي فنجان القهوة التي بدت خائفة:"من الذي سيزورنا فجرا؟" -خاطبتُها غاضبة:"خوفكِ هذا يُرعبني،دعينا نحاول معرفة الغريب القابع في الحديقة من خلال صوته،فنحن لا نفتح النّافذة للأغراب". -سَأَلْتُ عقلي:"ما هذا الصّوت الذي يُصرّ على أن يقول"أنا هنا أنتظر أن تفتحي لي النّافذة"؟"... -أجابني ذاك الذي يُصرّ على ارتداء ثوب الغباء أحيانا:"إنّه الحفيف"... -ثُرْتُ عليه:"أعلم أنّه الحفيف!!!...لكنّ لغة الضّاد،تلك الماكرة، أبدعتْ منه الكثير...فأيّ حفيف ممّا أبدعته داهمنا في هذا الفجر الذي يبدو أنّه لن يترك مكانه للصّباح هذا اليوم؟" -قال عقلي من جديد:"لعلّه طائر يستعدّ للرّحيل فيُحرّك جناحيه،إنّ صوتهما يُشبه ما نسمعه الآن". -اِسْتَغْرَبَتْ نفسي من عقلي وقالت:"ما الذي أصابكَ -يا عقلنا-؟ أنسيتَ أنّ الطّيور رَحَلَتْ عن أرضنا بحثا عن الأمان في أرض أخرى منذ سنين؟" -أضاف عقلي بعد تخمين:"أظنّه حفيفا آخر لم يمرّ بنا سابقا، إنّه حفيف إبل تُسرع في سيرها...ألَمْ تقل لنا لغة الضّاد إنّه أيضا حفيف؟" -جُنَّ جنون نفسي فخَاطَبَتْ هذا العقل الأحمق قائلة:"هل انتقلنا إلى الصّحراء لِتَمُرَّ بجانبنا الإبل أم أنّ خيالكَ اللّعين جعلكَ تتصوّر أنّنا في خيمة نستمع إلى حفيف الإبل وهي تنوي الهروب من عقل غبيّ مثلكَ!!!؟" -حاول العقل من جديد قائلا:"حذار أن تفتحي النّافذة،فَخَلْفَهَا حيّة تتربّص بنا،وهذا الحفيف هو صوت جلدها وهي تُحاول الاقتراب من النّافذة لعلّها تستطيع الدّخول بين أحد شقوقها". -تعجّبتْ نفسي ممّا قاله عقلي وأخبرته:"حفيف الحيّة لا يسمعه إلا سكّان الصّحراء في يوم قائظ يتوقّف فيه الكون عن الحياة،فتكون بصوتها صيدا لِمُروّضي الأفاعي الذين يُغامرون بحياتهم من أجل هذه اللّحظة". تَعِبْتُ ونفسي من هذا العقل العاجز،فخجل منّا وأضاف:"إنّها أمّكِ ترحي القمح مع انبلاج الفجر،وهذا صوت الرّحى يُعلن سيمفونية عيشنا البسيط،...أتُنكرين أنّ صوت الرّحى هو أيضا حفيف؟" اِنْبَهَرْتُ لغباء هذا العقل الذي يفتخر بقدرته على شرح المُفردات كبعض البشر الذين يظنّون أنّ الكتابة هي زخرفة الحروف وتزويقها،...فقلتُ له:"سأسمع منك آخر مُحاولة لِتُحدّد لنا صاحب هذا الصّوت الغريب". -فقال العقل دون عناء:"نحن في الخريف،وهذا صوت صادر عن تحرّك أوراق الشّجر،هو حفيف الأوراق الذي تغنّى به الشّعراء،هو صوت الطّبيعة الذي يقول لنا:"اِعشقوا الحياة فالأوراق تعزف لكم سيمفونية الخلود"... صَمَتْتُ فقد اجتاحتني خوالج نفسي الغريبة،وفي حضرة الصّمت نطق قلبي:"صدق العقل في كلّ ما قام به من توصيف،لكنّ إقصاءه للمشاعر جعله يُخطئ...إنّه حفيف آخر، حفيف لا يُدركه العقل،حفيف يمرّ أحيانا لِيَبْعَثَ في النّفس الاشتياق والحنين،هو حفيف الذّكرى يخترق السّمع ليقول للقلب:"أنا هنا منذ سنين"...
_________
ليلى كافي/ تونس
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع