رسائل الحمام المنقوشة
قراءة في قصيدة : " رسائل الحمام المنقوشة "
للشّاعر : محمّد صالح محمّد تقيّ
بقلم : زخّات الهذيان
--------------
النص:
(رسائل الحمام المنقوشة)
على أوراق أرواحِنا ماءْ
صباحٌ جديد
يدسُّ الندى والضياءْ..
وتأتين مثل الحقول البعيدةْ
كأنّك
أنت أراضي القصيدةْ
حقول مجيدةْ
ويهطل
من عينيّ ماءْ
فيقفز من شفتيك الغناءْ
تحبين السماء!!
تحبين هذا الفضاء المقوّسَ
في صدرنا..
غيمةً..
نجمةً..
بسمةً
وفي عينيك ملحمةٌ.. أغنيةٌ
ورجاءْ
*
تحبين فضاءً تطيرين فيه
وتبنينَ
فوق التخوم بيوتًا
وعشًا...
وتلّة عشقٍ مواربةً
وصغيرةْ..
بها طفلةٌ
وهي تلهو
وتنمو
وفي كفّها دفترٌ..
دميةٌ
خرزٌ
وفي جيدها تتلاعبُ
تعلو
وتلهث منها ضفيرة..
تنام..وتصفو
وتصبح حين تصحو أميرة
وتقذف في قاموسِها الضحكاتِ القصيرة..
*
تحبين آدمَ
تحبين لما يؤوبُ مساء
إليك
ويُلقي بأعبائهِ
الطافحاتِ
يرشّ عطور الرضا والهناء
يرش بوجهِك روحَ الحديقة..
ولكنّ آدمَ ما زالَ يرنو
إلى موطنٍ
شاردٍ..
وهو يبكي
ويعبر نحو الأعالي
بشوقٍ
وينزفُ
من مقلتيهِ شموسَ الحقيقة..
*
تريدين قلبي الصغيرَ الشقي
على كتفيك.. حتى يضيء
وهل كان حقًّا بريء
أنا روضةٌ
سوف تغدو - كما تعلمين- خرابْ
أنا ذلك النهرُ الثري
النقيّْ
ولكنْ يخافُ
يجفُّ
يجفُّ
يجفُ
ويصبحُ أنشودةً من سرابْ
*
ألا تعلمين
أغمضي جفنَك المتوشّحَ شوقًا
ودوري
إذا شئتِ
غربًا..
إذا شئتِ شرقًا
فماذا ترينَ؟
وهل توقنينَ؟
ألا تعلمينَ.... ألا تدركينْ؟!
انظري كيف هذي النجومُ الكثيرةُ
سوف
تطلّ عليك
وتنزل طوقًا على معصميك
ألا تمرحينَ
ألا تضحكينْ؟!
*
تقول القيامةُ..
-ماذا تقول القيامةُ؟!-
أني لقيتك تحتفلينْ
بقرب ضفافّ من الفلّ والياسمين
عليك لباسُ الزبرجدِ.. يزهو
تحفّك أسرابُ طيرٍ تغني
فتستمعينْ
وسربُ الإوزّ بقربك يلهو
تمدّين كفّا إليه.. ترشينهُ برذاذٍ
رطيبٍ ثمينٍ ..
ولا تهدأينَ
ولا تسكنينَ
وتنتظرينْ..
وكنت أنا
مسرعًا
حاملا باقةً من قلوب إليك
فتبتسمينَ..
وندخل قصرَ النعيمِ
ونغرف خلدَ المعينِ
ألا تذكرينَ
ألا تذكرينْ؟!!!
*
سلامٌ عليكِ
تقول الحكايةُ أنك روحٌ عظيمةْ
وأنّ
البنفسجَ وهو الزهورُ السقيمةْ
تنامُ على راحتيكِ
فتشفى قليلا...
وتلثمُ في شغفٍ راحتيكِ
وتبقينَ .. في بهجةٍ تحلمينْ..
تشعّين..ضوءًا
ترشّين حلمًا..ودفئًا
على.. ضفّةٍ من بقايا الحنينِ
وتبتسمينْ
*
وماذا تريدينَ
ماذا تريدين مني؟!
حمامًا يطير إليكِ
رسائلَ
منقوشةً..
ويفرد جنحانهُ..
في ارتباكٍ حزينْ؟!
يرف عليكِ
فتستسلمينَ
وتبتسمينْ
*
ألا تدركين..
بأنّي..
وأنّي.....
وأنّي.............
كلامْ يرفرف مني..
هديلٌ ينطّ على كتفيك...
فتبتهجين..
وتستيقنين؟
--------------
القراءة:
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سنقسّم القصيد مجازا إلى مبنى ومعنى أو إلى أسلوب ومضمون، رغم تداخلهما وتفاعلهما، وكلّ قسم يخدم بالضّرورة القسم الآخر.
قبل ذلك لابدّ بأن ننوّه بأنّ القصيدة هي عبارة عن مقاطع: ( 9 مقاطع. )
وهذا لعمري هامّ، يدلّ على تقطّع صوت الشّاعر أو البطل إن جاز التّعبير ولهاثه، فإنّ القصيدة عبارة عن لهاث، ورجع صدى، وتقرير ومصير، يقين، حياة، وموت، وقيامة ..( سنرى ذلك تفصيلا في التّحليل )
أولا: الأسلوب ~المبنى :
القصيدة تحكمها جمل اسميّة وجمل فعليّة وهذا لعمري تراوح بين الحركة والسّكون، فالجمل الفعليّة تقود إلى الحركة، وإن حركة الشّاعر أكثر من سكونه، فلذلك نجد هذه الجمل الفعلية أكثر كثافة من الجمل الاسميّة إذ أنّها تواترت بحدّة وكثافة، وهذا دليل يكشف عن نفسية البطل وعن مشاعره الفيّاضة أو الجيّاشة.
فهو تارة يهدأ وتارة أخرى أو مرّات عديدة يثور ...(تحبّين آدم... + تريدين قلبي الصّغير الشّقيّ)
وتتكرّر الجمل الفعليّة في بعض الأحيان ( يخاف ... يجفّ يجفّ يجفّ ..يجفّ ...) وهذا التّكرار دلالة على سرعة الحركة وعلى الفيض
( ولا تهدأين ....) كأنّ البطل هو الذّي لا يهدأ لقد انقلبت الأدوار ...
يتمزّق، ويتراوح هذا النّمط بين السّكون والحركة ...
تجذبنا أيضا : الجمل التقريريّة في القصيد ويبدأ بها مستهلّ النصّ (على أوراق أرواحنا ماء ... + وتأتين مثل الحقول البعيدة .....) كأنّ الشّاعر أو البطل قد سنّ قانونا لا يرتابه شكّ كأنّه كلام منزّل، فهي أراضي القصيدة " وانتهى الأمر ... وقضي الأمر الذّي فيه تستفتوون .....يا الله ...
إلى جانب الجمل التّقريريّة نجد أساليب بلاغيّة أخرى عديدة وجميلة : مثل الجمل الاستدراكيّة والاستفهاميّة الإنكاريّة :(ألا تعلمين ....؟ -ويبدو أنّها تعلم. (فماذا تريدين ..)- ويبدو أنّه يعرف ماذا تريد .(وهل توقنين) - ويبدو أ نّ الحبيبة توقن جيّدا بأنّ البطل يحبّها ...
(ألا تدركين)- يبدو أنّها تدرك .(ألا تذكرين) - يبدو أنّ لهما ذكريات مشتركة ...الخ ......
إن القصيدة محكومة أيضا بالتّشبيه المباشر ( كأنّ، كأنّك...) وبالصور والتشابيه الغير مباشرة، والعطف المعطوف عليه، ويظهر بكثافة في جلّ مقاطع القصيد... (ووو ويقفز، وفي كفّها، وفي جيدها، وهو يبكي، ولكن يخاف، ويعبر، وهل، وسرب الأوزّ، ويدخل، ويغرف، وتبتسمين ...ووو.. وإنّي، وإنّي، وإنّي ..)
وهذا يدلّ على كثافة المشاعر وتسارعها ، وحتّى تضاربها . ويبدو المجاز جميلا رقيقا في القصيد ......
--------------
ثانيًا: المعنى ~المضمون:
*
المقطع الأوّل:
على أوراق أرواحِنا ماءْ
صباحٌ جديد
يدسُّ الندى والضياءْ..
وتأتين مثل الحقول البعيدةْ
كأنّك
أنت أراضي القصيدةْ
حقول مجيدةْ
ويهطل
من عينيّ ماءْ
فيقفز من شفتيك الغناءْ
تحبين السماء!!
تحبين هذا الفضاء المقوّسَ
في صدرنا..
غيمةً..
نجمةً..
بسمةً
وفي عينيك ملحمةٌ.. أغنيةٌ
ورجاءْ
يستهلّ الشّاعر القصيدة بجمل تقريريّة (على أوراق أرواحنا ماء/ صباح جديد/ يدسّ النّدى والضّياء ..)
كانت الجملة الأولى محكومة " بالمعيّة " ( أرواحنا: جمع، لم يقل روحي، أو روحها. هما إذن واحد. ويطلّ أيضا من المقطع الاوّل شعر عفيف يستدعي و يخاطب الرّوح ( أرواح) ويمزجها بطهارة حسية تتمثل في (ندى ، ضياء )
ثمّ يتدرّج الشّاعر ليقصي نفسه ، ويفرد لحبيبته جناح القصيد أو جناح الحمام ، وهذا إن دلّ فإنّه يدلّ على قمّة العاطفة والإيثار .
( وتأتين مثل الحقول البعيدة) يبدو أنّ الحبيبة بعيدة.
(كأنّك) تشبيه، ثمّ تأتي الجملة الصّاعقة في التشبيه: الحبيبة هي (أراضي القصيدة)، فهي ليست أرضا فقط، بل هي أراضي، ..يا الله وإن الأرض عادة تدلّ على الثّبات والتوغّل والامتداد، وعلى الدوران ،والعِرض، الوطن، العمق، الانصهار، التملّك و...
إذن هي ليست أرضًا فقط بل هي أراض- أراضي القصيدة
لقد نبتت فيه أصبحت كلّ شيء، فهي (حقول مجيدة) وماجدة وثريّة وغنيّة و.. ومتفتّحة ، لكن الأرض يلزمها ماء لتحيا الحقول
أتراه ماء من السّماء ؟
ما هذه الرشاقة والانخطاف الخيالي في التسلسل ؟!
إنّه ماء ليس نازلا من السّماء بل من عينيّ الحبيب، من نوحه وبعده، سيهطل رواء عينيه، ستينع الحبيبة، بينما هو سيفنى، وكانّه يفنى بكاء لدرجة القحط والزّوال وهي في المقابل تينع وتحيا !! يا الله ما أجملها من صورة وما أشقاها!! قمّة التّضحية ، ورهافة الإبداع.
( تحبّين السّماء ؟) إن أسئلة الشّاعر الإنكاريّة تدلّ على كثافة الحركة في داخله ...
(هذا الفضاء المقوّس )
من لا يحبّ السّماء ؟
إن السّماء هي الإله، هي البدء، هي الرّجاء، هي استقبال الدّعاء، هي الغيمة الممطرة، هي الحياة، هي النّجوم ....
وعندما تكتمل هده الوجوه تأتي البسمة، وتظهر الحبيبة ملحمة الحبّ والرّضا والغناء ، والدّلال والمحال ، وفي قلبها رجاء من السّماء الى السّماء حيث اللقيا ...
الله !!
يبدو أنّ المقطع الأوّل مقطع باهر كأنّه سقط من السّماء في غيمة حبلى ...
حب عفيف، ملحمة حبّ تذّكّرنا بالمدرسة العذريّة بقيادة جميل بثينة، حبّ صارخ لكنّه لا ينفلت من العفّة، سماويّ.
لقد عبّر الشّاعر عن ولعه وعشقه وقمّة وجده وحرقته وبعده دون أن ينطق بكلمة " أحبّك " .
هو لا يركن للعاديّ ، هو طال عنان السّماء.......
*
المقطع الثاني :
تحبين فضاءً تطيرين فيه
وتبنينَ
فوق التخوم بيوتًا
وعشًا...
وتلّة عشقٍ مواربةً
وصغيرةْ..
بها طفلةٌ
وهي تلهو
وتنمو
وفي كفّها دفترٌ..
دميةٌ
خرزٌ
وفي جيدها تتلاعبُ
تعلو
وتلهث منها ضفيرة..
تنام..وتصفو
وتصبح حين تصحو أميرة
وتقذف في قاموسِها الضحكاتِ القصيرة..
إنّ المقطع الثاني في مستهلّه كأنّه يكمّل المقطع الأوّل ( تحبّين فضاء ... )
مثلما خلص ذلك في المقطع الأوّل ( تحبّين السّماء ....) ( تحبّين هذا الفضاء المقوّس ... )
هذا ظاهريّا أمّا باطنيّا -إن صحّ ذلك- فهو يقودنا إلى مرحلة أخرى، مرحلة موغلة في القدم والبدء، موغلة في التخفّي والزّمن، وهي مرحلة الطّفولة : ( بها طفلة - وهي تلهو - وتنمو - ...وتلهث منها ضفيرة ...) وصف لطفولة شفّافة ...: ( دفتر + دمية + خرز + وضفيرة ) كلها عناوين لطفولة جميلة بريئة: كتابة، لعب، وجمال ..
وإن كل ذلك يقودنا إلى هذا الحبّ العفيف ويؤكّده لنا بهذه الصّور ..
إنه يقودنا أيضا إلى عمق أكبر وإلى توغّل أشد، وكأنّ الشّاعر أو البطل قد أحبّ حبيبته قديما، مبكرا،، منذ البدء عندما كانت طفلة، وحتّى قبل البدء: (وتلهث منها ضفيرة) إنه هو هذا الحبّ العذري، الغائر في الرّوح والطّفولة والبراءة ...
إن هذا اللّهاث البريء كأنّه لهاثه، وإن واو العطف " شغّالة " تشي بتكاشف وتكاتف الصّور والوجد معا.
مقطع طفولي بامتياز: ضفائر طائرة، ودمى، وخرز، ودفاتر " تشخبط " بها الحبيبة الطّفلة بكلّ براءة .
*
المقطع الثالث :
تحبين آدمَ
تحبين لما يؤوبُ مساء
إليك
ويُلقي بأعبائهِ
الطافحاتِ
يرشّ عطور الرضا والهناء
يرش بوجهِك روحَ الحديقة..
ولكنّ آدمَ ما زالَ يرنو
إلى موطنٍ
شاردٍ..
وهو يبكي
ويعبر نحو الأعالي
بشوقٍ
وينزفُ
من مقلتيهِ شموسَ الحقيقة..
ويطالعنا المقطع الثّالث ليفصلنا عن المقطع الثاني وعن جوّه الطّفولي. لقد كبرت الطّفلة وأصبحت " حوّاء " وكبر البطل معها وأصبح " آدم " ونمت معهما دلالتهما حيث الحبّ والإغواء وحيث التفاّحة بينهما..
(تحبين آدمَ/ تحبين لما يؤوبُ مساء/ إليك)
وينشطر الشّاعر بين الجمل الفعليّة والاسميّة، وخاصّة الجمل الفعليّة لأنّه في حركة متميّزة وهو يدور حولها وحول نفسه. هي فتاة، هي طفلة، هي حوّاء.
وتفعل كالعادة أدوات العطف فعلها وخاصّة " الواو ". إن كثرة العطف علامة لعدم التّنسيق أو الاتساق، فالبطل حائر في لهاث مستمرّ، وهي ايضا دليل على كثافة مشاعره، وعلى تسارعها وحتّى تضاربها!!
فلذلك فإن: آدم تثقل كاهله أعباؤه الطّافحات .
ورغم هذه الأعباء فهو (يرشّ عطور الرّضا والهناء..)، والأبهى والأجمل من ذلك فهو ( يرشّ بوجهك روح الحديقة..)
فما أسمى وأجل وأجمل هذه التّضحيّة المعطاء !
إنها ليست الحديقة فقط، بل روحها، وما تحويه من جمال، ورواء، وورد، وحياة، وجنّة. لقد صيّرها كأنّها جان أو إنسان أو ربّما هي روحه هو. جميل والله، قمّة التجلّي والإبداع .
ولكن ! ......
تطالعنا هذه الـ" لّكن " ونحن نتجوّل في الحديقة وروحها، فتخطف منّا المشهد، و ( لكن ..آدم مازال يرنو..) فهو لا وطن له، والحبيبة هي الوطن.
اذن ! ....
نفهم أنّ الحبيبة بعيدة، أو غائبة، أو .. لأنّه (يرنو إلى موطن + شارد ...+ يبكي .. + ويعبر نحو الأعالي..)
وتدهشنا المفردة التّي تلي (بشوق) وهي الفعل ( وينزف ..) فإن النّزيف هو قمّة الألم بل الأكثر من ذلك هو الفناء، فهو يفنى لأنّه (ينزف).
إنها حقًّا صور مجازيّة جميلة من شاعر قدير، ( في مقلتيه شموس الحقيقة ) هي شموس أيضا، لا شمس واحدة، تماما مثلما هي أراض لا أرض.
*
المقطع الرّابع :
تريدين قلبي الصغيرَ الشقي
على كتفيك.. حتى يضيء
وهل كان حقًّا بريء
أنا روضةٌ
سوف تغدو - كما تعلمين- خرابْ
أنا ذلك النهرُ الثري
النقيّْ
ولكنْ يخافُ
يجفُّ
يجفُّ
يجفُ
ويصبحُ أنشودةً من سرابْ
إن هذا المقطع يطالعنا تفصيلا : فبعد أن طالعنا " آدم " في المقطع السّابق، ها هو الشّاعر كأنّه قد فصّل آدم إلى أجزاء: ( تريدين قلبي الصّغير الشّقيّ /.. أين ../ على كتفيك...)
هذا التّفصيل وهذه الاستعارة، - وهذه المدارة ، إن صحّ التّعبير- كلها تشي بمقدار الوجد والحبّ الذّي فاض على هذا الشّارد، وعلى هذه الرّوح، على آدم وقلبه ....
وتطالعنا ( حتّى يضيء ..) وكأنّ الإضاءة بل هي كذلك مرهونة بأن يكون القلب في كتفيها، كالقلادة حتّى يضيء .إنه جمال صورة، وتماهٍ بين القلبين، لقد أصبحا جزءا عضويا ملتحما.. خيال مدهش!
قبلها كان في صدره يعيش العتمة والآن الضياء والنورانية .
الشّرط والمشروط : ما أعمق هذا .....
وهذا التساؤل الانكاري ....
كأنّ الإضاءة القلبية، والتخلص من شقاء البعد والحب، اقترن بالالتحام القلبي معها، بكتفيها المدوّرين جمالا وبهاء وطهارة، لكن الصورة تنكسر بالسؤال، ( وهل كان حقّا بريء؟) إنه الحب الي يترفّع ويحرص على النقاء والسمو، حتى لا تشوبه شائبة.
ومن هنا يؤّكد لنا المقطع انكسار الصورة حيث يوغل في الزّمن " سوف " ( سوف يغدو كما تعلمين ... )، هو يصرّح له ويُعلمها، وهي دوما تعلم، ..لكنه لا يكتفي بل يرسل لها ويسطّر لها اعترافاته ويحاصرها بأسئلته الإنكاريّة .
( خراب..) : تسقطنا هده المفردة في الذّهول، بل تصعقنا، في حين أنّ الرّوضة (خراب) هكذا تصبح، وتقابلها الجنّة، فتصبح خرابا كلمتين نقيضتين تصدمان القارئ، لكن التوغّل في عمق القصيدة ومن خلال جمله التّقريريّة ( أنا روضة سوف تغدو خراب ) ، ( أنا ذلك ...) ..وهذه الثّنائيات التّي تحكمها : (جنّة + نار) + (بعد + قرب) + (رواء + قحط )+ (طفولة + براءة + حوّاء وادم وإغواء + الفتّوة + الكبر) + (الحسيّ + المعنوي +الرّوح + الحياة + الفناء + القيامة)..
كلّ هذا التّناقض لا يمكن أن يصدم أبدا فهو تأكيد على اللّهاث والصراع، وقمّة الوجد والعشق، والفناء والتّضحية ...
وإنّ قفلته للمقاطع وإن انبسطت وزهت لكنها دوما تقودنا الى الياس، فالنّهر النّقيّ " يخاف أن يجفّ "
ولقد تكرّرت هذه المفردة : ( يجفّ، يجفّ، يجفّ ...) كأنّها مطرقة تطرق أفئدتنا قبل رؤوسنا وهي بالضّرورة تطرق فؤاد ورأس البطل إن هذا التّكرار تأكيد وتوكيد يوغل في المعنى، ونغمة خوف موسيقية تجتاح القلب.
فالشّاعر أو البطل يحكمه في الحبّ الوجد، والبعد، وأسباب الحياة والفناء، ويحكمه أيضا اليأس والخوف. إنه الخوف الشّديد من ضياع حبيبته، أو هو يخاف تلاشي هذا الحبّ ..( ف.. يصبح أنشودة من سراب) وإن هذا التّقابل أيضا بين الأنشودة من ناحية والسّراب من ناحية أخرى لهو خير دليل على خوف مقيم يرى فيه الشاعر الحب سرابا حتى لو تغنى به وسعى إليه فهو لن يروي عطشه وسيقتله ويفنيه كلما غنى وأرسل لحبيبته الرسائل..
ما أبدعه من مقطع! وما أوجعه!
*
المقطع الخامس :
ألا تعلمين
أغمضي جفنَك المتوشّحَ شوقًا
ودوري
إذا شئتِ
غربًا..
إذا شئتِ شرقًا
فماذا ترينَ؟
وهل توقنينَ؟
ألا تعلمينَ.... ألا تدركينْ؟!
انظري كيف هذي النجومُ الكثيرةُ
سوف
تطلّ عليك
وتنزل طوقًا على معصميك
ألا تمرحينَ
ألا تضحكينْ؟!
يستهلّ الشّاعر المقطع الخامس ( ألا تعلمين) ويبدو كما أسلفنا أنّها تعلم .
ضفائر مقصوصة ....نهر ...جفاف ...
( وأغمضي عينيك .... ) ..والإغماض له دلالتان : دلالة الحلم + ودلالة مداراة الحقيقة . فأيّهما قصد الشّاعر ؟؟؟
ربّما قصد الاثنين .....
( دوري، إذا شئت غربا/ إذا شئت شرقا ..) فهي أو هو محاصر، كما هي المقولة الشّهيرة لطارق بن زياد .." البحر من ورائكم والعدوّ أمامكم ، فأين المفر ؟؟
( فماذا ترين؟) يبدو انّها ترى. (وهل توقنين؟) ويبدو انّها توقن يقينا لا شكّ فيه
(ألا تعلمين؟) يبدو أنّها تعلم علم اليقين. (ألا تدركين؟) يبدو أنّها تدرك.
كلها جمل استفهاميّة إنكاريّة استدراكيّة سطت على المشهد .
هو هذا التّحاور الدّاخلي المقصود والمنقوش والذي ينمّ عن قمّة الوجد والعشق . إنّه تهجّد في الله، وفيها.
هو نقش لها من النّجوم طوقا على معصميها، وليس لمعصميها، وهذا يعني قمّة التملّك فهو يريد أن يملكها ويتملّكها .
فهل تنزل النّجوم لقدّيسة ؟؟؟
إنه جعل من المستحيل ممكنا .
ما أجملها من صور! وهو يريد بعد هذا العطاء وفاء وردّة فعل منها، كنتيجة، وهي أن تسره بسرورها (ألا تمرحين ؟ ألا تضحكين؟)
حتما إن من حضي بالنّجوم حتّى وإن كانت سلاسل وقيودا في معصميها وتملّكا لها بطواعية الحب فإنها، ستمرح وتضحك. إن الحب والسرور يتملّكانها، فيسود بينها وبين حبيبها البهجة والمرح والملاطفة والإقبال.
*
المقطع السّادس :
تقول القيامةُ..
-ماذا تقول القيامةُ؟!-
أني لقيتك تحتفلينْ
بقرب ضفافّ من الفلّ والياسمين
عليك لباسُ الزبرجدِ.. يزهو
تحفّك أسرابُ طيرٍ تغني
فتستمعينْ
وسربُ الإوزّ بقربك يلهو
تمدّين كفّا إليه.. ترشينهُ برذاذٍ
رطيبٍ ثمينٍ ..
ولا تهدأينَ
ولا تسكنينَ
وتنتظرينْ..
وكنت أنا
مسرعًا
حاملا باقةً من قلوب إليك
فتبتسمينَ..
وندخل قصرَ النعيمِ
ونغرف خلدَ المعينِ
ألا تذكرينَ
ألا تذكرينْ؟!!!
يطربنا ويدهشنا أيضا المقطع السّادس باستهلاله الغريب : ( تقول القيامة ...)
لقد راوح الشّاعر في جلّ مقاطعه بين الحسّي والمعنوي وإن طغى المعنوي أو الرّوحي أكثر وظهر الحسّي باحتشام وتخفّ ..
لكن هذا المقطع صعقنا كتيّار كهربائي: ( تقول القيامة )، وقبل أن ننزل لقراءة المقطع أو الجملة المتوالية نسأل أنفسنا: ماذا تقول القيامة؟ ونفجأ بالشّاعر وقد قرأ ما يجول في خاطر المتلقي، إذ لم تفته أسئلته، فيسأل هو بدوره وهو العرف بجملة استفهاميّة إنكاريّة (ماذا تقول القيامة ؟ )
وتجيب المقاطع المرسلة التّالية عن السّؤال.
وهنا ندخل في جنّتها ، أو بالأحرى في الجنّة، جنة الحب، أو جنّتهما الموعودة، فنجد أنّ الموروث والقران قد كانا حاضرين بقوّة وجمالية وإيحاء (عليك لباس الزّبرجد) وأسراب الطّير ، وسرب الإوزّ، ولعب ولهو. إنها وحياة ثانية كما وعدنا بها....وهي تنتظره، لذا فقد أتاها مسرعا مهرولا، في قمّة الشّوق، حاملا باقة، ونظنّ عادة أن الباقة من ورود، لكنّها باقة من قلوب، وليست من قلب واحد، هي جمع ، كما الأراضي والشموس ... فهي القلوب، وكأنّ قلبا واحدا لا يمكن أن يكفيها، أو كأن قلبه قد انقسم إلى قلوب وتفتت من شدة الشوق وازدحام المشاعر وشدة الانفعالات.
وهي تردّ بابتسامة، وهذا ردّ قليل، وهي تعلم، لكنها ابتسامة السعادة الأبدية، فهما يدخلان في قصر النّعيم ....كما وعد الربّ.
إن ذلك يؤكّد بعد الحبيبة أو غيابها كما ورد في المقاطع المنصرمة، فهي صعبة المنال، يجتاز بها في الأحلام الوردية من الدنيا إلى حلم الآخرة .. إنها قيامة الحب وجنة الحب المصورة في قلب هذا الحبيب.
وكنّا نظنّ أنّ القصيد تنتهي هنا في أوج الحلم والانصهار مكانها الجنّة الموعودة وحينها " يغرفان نعيما " ...
وهذه هي النّهاية، هي النّهاية الحتميّة التّي لا يوجد بعدها شيء ...
لكن! .....
يطلّ علينا المقطع السّابع!
*
المقطع السّابع:
سلامٌ عليكِ
تقول الحكايةُ أنك روحٌ عظيمةْ
وأنّ
البنفسجَ وهو الزهورُ السقيمةْ
تنامُ على راحتيكِ
فتشفى قليلا...
وتلثمُ في شغفٍ راحتيكِ
وتبقينَ .. في بهجةٍ تحلمينْ..
تشعّين..ضوءًا
ترشّين حلمًا..ودفئًا
على.. ضفّةٍ من بقايا الحنينِ
وتبتسمينْ
يطلّ علينا المقطع السّابع بالسّلام ، السّلام عليها! وكأنّ النّعيم الذّي غرفا منه، لم يكفه ، أو لم يتحقق.
لتعود القصيدة عودا على بدء، ويتكون دائرية المسار -أحيانا- ، وعموديّة أحيانا أخرى، وأفقيّة في أحيان أخر، فهي متجليّة وسماويّة طورا، وأرضيّة في أحيان قليلة، والحكاية فيها مازالت مستمرّة، ومازالت تقول : ( تقول الحكاية ..... عظيمة ...) كأنّ هذه العظيمة لا تكفها ولم تكفها الجنّة، فلابدّ من العود على البدء، ولابدّ أن يمجدّها، وكأنّ الهدايا المستحيلة منطقيّا هي التّي ستهبها حقّها. - يا الله، هي مقاطع موغلة في المستحيل والتّقديس وهذا إن دلّ فإنّما يدلّ على قوّة العاطفة وقوّة مشاعر البطل وتقديسه لحبيبته، هذه الحبيبة الخارقة الحارقة .
لقد طوّع إليها كلّ شيء وكلّ أمر ، فحتّى ( البنفسج وهو الزّهور السّقيمة - تنام على راحتيك فتشفى ...) الله، يذكّرنا هذا المقطع الإبداعي بالأغنية المشهورة " ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين " .... فها هو البنفسج يشفى ويبهج على راحتيها، فهما الدّواء، وهما الرّواء جميل حقا.
*
المقطع الثامن:
وماذا تريدينَ
ماذا تريدين مني؟!
حمامًا يطير إليكِ
رسائلَ
منقوشةً..
ويفرد جنحانهُ..
في ارتباكٍ حزينْ؟!
يرف عليكِ
فتستسلمينَ
وتبتسمينْ
" وماذا تريدين ؟" بعد هذا سيّدتي ؟! بعد هذه الهدايا المستحيلة، وهذا الحبّ الذّي لا يفيه قلب واحد بمعناه بل تجنّد وتنشطر له قلوب، وهذه الجنّة، وهذا النّعيم، والسّماء والأرض والقيامة . ..!!
لقد ذاق ذرعا وانفجر وقال : ( ماذا تريدين منّي؟) إن المتلقي لا يلوم بطله، فقد كابد وكابد.
(حماما يطير اليك .. رسائل منقوشة ..).الله ..
لم تعد الحمائم ترسل الآن الرّسائل العاديّة فما بالك بالرّسائل المنقوشة، لقد ولّى الزّمن، إنّه العنوان المستحيل .
يرفّ اليها البطل، يرقّ إليها ويرسل سلاما مع الحمام ولا يكتفي بل رسائل مع الحمام، ولا يكتفي، بل رسائل منقوشة. والله هذا مبهر لقد أبدعت أيها الشاعر.
وهذا النّقش على الرّسائل يدلّ على القِدم والتوغل الزمي، كأنّه استعار الحكمة القائلة " العلم في الصّغر كالنّقش .....الخ .." لا يمحى، فحبّه منقوش لا يمحى، إضافة الى البعد الجمالي في النّقش، فهي باقية أزليّة لا تمحى، وما تاريخ الحب والتزاوج وقصص الحب في الشّعوب إلا جزء منقوش فيه ، حيث تاريخ الحمام كرسول قديم، وحيث الحمام رمز حميمي للتواصل.
اذن ...حبّ البطل لحبيبته باق، منقوش، لا يمحى بالتّقادم، مكين وثابت .
" وماذا تريد منه " أكثر من ذلك؟ فتردّ باستسلام وابتسام، ورغم صغر الردّ أمام حبّه الازلي وما قدّمه من مستحيلات يظلّ ذلك مراده .إنّها قصيدة التّضحيات والمستحيلات .
إن نقش الرسائل، هو علامة الحفر والغور، هو يذكرنا بقصيدة الشاعر الراحل نزار قباني في قصيدته (عقدة المطر):
وكيف أمحوك من أوراق ذاكرتي
و أنت في القلب مثل النقش في الحجرِ
أنا أحبك يا من تسكنين دمي
إن كنت في الصين، أو كنت في القمرِ
ففيك شيء من المجهول أدخله
و فيك شيء من التاريخ و القدرِ
..
هنا يتبلور نفس الشوق والتعالقة القلبي والمصيري، ولو بعدت الحبيبة، ولو كان مصير الحب مجهولا ، لكنه منقوش لا يمحى ولا يزول.
*
المقطع التاسع :
ألا تدركين..
بأنّي..
وأنّي.....
وأنّي.............
كلامْ يرفرف مني..
هديلٌ ينطّ على كتفيك...
فتبتهجين..
وتستيقنين؟
استهلّه الشّاعر بأسئلة إنكاريّة ...(ألا تدركين ؟..) وقد عرفنا من قبل ومنذ البدء بأنّها تدرك، وتعلم ، وتحسّ، وتعرف، وو...
(وأنّي .....
وأنّي ...
وأنّي ... )
كرّرها الشّاعر ثلاث مرّات، وقد كرّر قبلها، بعضا من المفردات والمقاطع، فكانت دليلا على التوجع والتحسر، وكانت دليلا على التّأكيد، والانشطار، وعلى قمّة التّماهي والوله...
(كلام يرفّ اليها ..) ، (هديل ينطّ على كتفيها ...)
فتغنّي وتبتهج، لأنّها قد استيقنت حقّا، وهي ربّما " الشّاكة " دوما،
(وتستيقنين ..). فكيف بعد كلّ هذا لا تستيقن ؟ ولا تسلم ولا تستسلم بعد كلّ هذه المستحيلات والاعترافات.
--------------
الخاتمة :
إنه نصّ مذهل، موغل في التخفّي، موغل في العلن، في الظّاهر والباطن، في الدّنيا والجنّة، في الأرض والسّماء ، في القيامة، حتّى .....
نصّ موغل في الذوبان، تحكمه جميع الآفاق والتعرجات، والخطوط والانبساطات والتقلّصات. فهو دائريّ، أفقيّ عموديّ، أرضيّ سماويّ ....
نصّ موغل في الوجد والحبّ والوله، دون النّطق بكلمة " أحبّك " ربّما عافها المبدع لأنّها صارت مباحة.
شعر عفيف، كأنّه من مدرسة " جميل بثينة " قد طار بنا وحلّق الى عنان السّماء حتّى وصل بنا الجنّة والقيامة.
إن القصيد عبارة عن لهاث، ورجع صدى وتقرير ومصير، ويقين، وحلم وحياة .. وقيامة ...
ما أصعب مضامينها! وما أجملها! وما أرقّ أساليبها البلاغيّة وتنوّعها !!
إنّها قصيدة المستحيلات ...
هي عبارة عن ملحمة حبّ ورضا وغناء .. وخوف ...وأمل.
وآفاق مفتوحة: حوّاء، آدم ..اغواء ...حلم وجنّة ...وأرض وسماء ..
من أبهى ما قرأت في العشق ...عشق " عذري ..
بورك الشّاعر المبدع محمّد صالح محمّد تقي، وبورك النّاقد الكبير فيه ..
وإنّني لعمري حاولت، ولي شرف المحاولة، بالرغم من كوني لا أبلغ أكوان ناقدنا الكبير الاستاذ : محمّد صالح محمّد تقيّ
لكن أحسبه شكرا وردّ جميل لمواساتي في فقد أمّي الحبيبة رحمها الله، بتحليله نصّي " إليها "
ولن أنسى أبدا هذه اللّفتة الكريمة منه والتّي أدخلت على قلبي المكلوم بعض السّرور
بوركت سيّدي من إنسان نبيل ..ومن فنّان كبير أستاذي محمّد صالح محمّد تقيّ ....
كلّ التّحايا والدّعاء .....
--------------
زخات الهذيان
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع