توقف ... تلك لم تك حياتي .. سأعترف بأن عمري " الف شجرة وعش حمام بني سهوا على حافة غصن " .. وبأن زكاما أصابني بعد " ثلاثين عمرا وعدوى " وبأني أرتكبت الحياة خطأ ، وجئتها ساخرا على حصان خشبي مكسور ، وأن طفولتي ظلت هناك في " طابة ممزقة على حافة ملعب شيدت عليه بيوت الشوك " ... أنا اعتذر من " حياتكم " تلك التي ترسمها " مسارات وجداول ، وساعات للنوم ، وساعات للعمل ، وساعات للحب ، وساعات للعناية بالكلاب " .. أعتذر حقا لأني كنت بحاجة الى الأعتناء بـــ " كلاب ايامي المسعورة ، تلك التي أدمنت التدخين ، والسخرية ، والكسل ، والكفر بأثداء النساء الكبيرة " ... ايامي التي تمَل من مجرد ذكر أسم او كتاب او شاعر او مغني .. لم أك احب فيروز " غير انها كانت تأتي كل صباح الينا وكنت في الطريق الى معهد الفنون الجميلة ، أما ثملا أو نائم ، وربما نصف هذا ونصف ذاك " .. أحببت نساء لا أتذكر اسمائهن ، وسموات لم تعد قريبة ، وشجيرات ماتت من فرط تعدي الأسمنت على العشب ... ولدت في بابل ، قرب نهر ظل حزينا ، رغم جميع الأعياد التي مرت على روجاته ، ورغم كل الطبول التي بحت جلودها في الزوارق التي لعبت على هدوئه ، .. ولدت في يوم ما ، وجدته مكتوبا في مذكرات ابي ، الذي كتب بخطه الأنيق جملة واحدة " اليوم ولد أحمد " .... لا أتذكر شيئا ، ولست معنيا بالذاكرة ، ماأعرفه ان بستانا كبيرا كان يخيفني ، وان اصوات " ثعالب " كانت تبعث فيَ الأسئلة ، وان قميصا أحببته تمزق في عراك ، وأن مدرسة بالية أكثر نظافة من تسريحة مديرها المعقدة كنت أكرهها ، ولطالما هربت منها ، لأعوم في " شط الحلة " .. احب الكتب فقط لأنها تأكل الساعات ، أحب الاغاني لأنها تجعل السكر أخف وطأه ، أحب النساء لأنهن يصنعن الأنتظار ، أحب السينما لأنها تأخذني الى مايهمله المخرج ولايفكر به كاتب السيناريو ، لا أحب اللوحات الرمادية لأنها تعق اللون ، ولا أحب اللون لأنه يأكل جمال الأسود والأبيض ، ولا أحب الاسود والابيض لانه يجعل الحياة نصفين ، وهي لم تك يوما كذلك ، قرأت كثيرا ، فلم اجد شاعرا صادقا كــــ " محمد الماغوط " لذا تشبثت به ، حتى قابلته صدفة على رصيف دمشقي ، وكذلك فعل بي " أنسي الحاج " .. وفايق حسن ، ذاك الشجي المغني الذي اعاد مجد اللون من يد الله ليذرفه في اللوحة .. اختلفت مع أستاذ تاريخ الفن لأنه أعتقد كالبلهاء الآخرين أن " بيكاسو الفقير " أهم من " براك العظيم " ... وان " جواد سليم وشاكر حسن ال سعيد " أكثر وهجا من " كاظم حيدر " ... أحب بغداد .. تلك التي رأيتها ذات صيف تغني على الرصيف ، وتنثر كلابها الاليفة وكراسيها في الحدائق ، وتترك سيارات الفورد والدودج ذات الاجنحه تحت اشجار اليوكالبتوس العالية ، أحب تلك الظلال البنية التي تخفق تحت بناياتها الرمادية ، ولكنتها التي تجلت في أغنيات " يحيى حمدي " الذي اهمله النقاد فقط لأنهم لم يدركوا وهجه ، أحب بغداد " صالح الكويتي " و " لميعه توفيق ، ورضا علي ، وسليمه مراد ، وأحلام وهبي ، ويوسف عمر " ... احب " كراج العلاوي ، وساحة دمشق وواجهة معهد الفنون الجميلة ، وجسر الأئمه وجسر الأحرار ، وجسر الجمهورية ، ... أحب رائحة الاقواس في بيوت البتاويين القديمة ، وفرجة الصدر في ثياب البغداديات ، ... وأحب كثيرا تلك الكلمات البذيئة التي يتداولها البغادة في المقاهي والازقة .... عشت في الدوحة كانت مدينة للضحك والسهر والشعر ، اتذكر عبد الله الحامدي وعبد الكريم حشيش وامام مصطفى وفاطمة الكواري ، واحمد البحراني ، والعجوز الجميل بابكر عيسى ، وماتزال قصائد المرزوقي تشغلني ، اتذكر مسرح قطر ، والكورنيش ومقهى النجمة ... مررت بدبي لأنزف سنة لم ادركها من عمري ، فقط لانها لم تحفل بالشعر كثيرا ، حتى جاءت دمشق لتعيدني للشعر والكتابة ، والحب ، والصخب والنعاس والليل ، والأصدقاء .. دمشق التي اعادتني لبغدادي المسروقة ، اقواسها والرمادي والعطور والاشجار ، ورائحة العتق الابنوسي التي احب .. دمشق قتلان وعبد الهادي ومحمود القيسي ، وسرب محبات وايام في اللاذقية التي لاتنسى .. بوجوهها وعبقها وبحرها ، وسحرها ... دمشق التي أقلتني ذات ليلة الى بيروت ، تلك البرجوازية الحلوة التي تزهو بعطرها حين تمر الى جانبك ، تلك التي لم افهم نظرتها يوم عبرتها ، الى القاهرة .. والصخب الذي لم احبه ، القاهرة المقاهي ، والحدائق والشوارع المكتظة بالغبار والهواجس ، القاهرة الليل والسكون والخوف ، والثورة .. وحدها القاهرة اعادتني الى بيروت ، لأجيب سؤالا معلقا في ذهني ... لماذا لم أدركها كثيرا ، وهئنذا اعود ، كما يعود الضال الى أمه .. بيروت عماد بدران ، وغادة نعيم ، وسناء البنا ، وفيوليت ابو الجلد وريف حوماني ، وعلي سرور ونهيد درجاني ، ومريم خريباني ، وهيام حيدر ، وايلدا مزرعاني ، وكامل صالح ، والمذهل بول شاؤول ، وريما شهاب ، ورنيم ضاهر ، ومي مسعود ، وزياد صعب ، ونعيم تلحوق ، وهدى عيد ، وليلى عيد ، وهند نعيم .. بيروت المعنى المحفور في جدران الحمرا الخلفية ، وقهوة شوقي بزيع ، وشعر عناية جابر المجعد كالموج ،وجنون هبة عبد الخالق المقدس بيروت التي تأخذك الى الليل برفقة كمنجات وتعيدك الى الوهن ضاحكا ، بيروت فوزي يمين ، ونبيذ النص الطافح في عيون انسي الحاج ، بيروت العجقة الحلوة المقرونه بضحكات شباب ضلوا الطريق الى الحزن ... بيروت جواد الاسدي وعلي ناصر كنانه وصلاح حسن ، تلك المدينة التي وضعت عيون قصائدها في قمصاني ... أعادتني الى دمشق ، مرة أخرى في حرب حزينه ، حيث لم تعد باب توما تضحك كما تركناها ، كانت عيون الاشجار شاحبة ، والأحمر الطافح في كفوف البارات لم يعد نقيا ، وأنكسرت نغمة ما في الشعلان ، حتى ان شجرة كنت احبها في الصالحية لم تعد منتصبة ... تلك حكاية اطول من حياتي ... حياتي النصفها دمشق ، ونصفها نغمة أختلطت بغنج بيروتي وميوعة بغدادية ، وسكون حلي عتيق ... تبا .. كيف بوسعنا أن نرى حياتنا ، نحن الذين لم نمعن النظر ... أحمد هاتف / العراق متابعة / سهام بن حمودة
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع