كانت فتاةً ذاتَ قوام إفرنجيّ. لعلّها أقرب ما يكون إلى الطّليان حقيبتها المحفظة واثقة في عضدها وثوقَ وقفتها وحضورها حتى أنّها ما كانت مضطرّة إلى شَعر طويل وملابسِ الأنوثةِ وأدوات التّزويق لتُثبت الحضورَ المُميّز للمرأة فيها. يصلني عبر الهاتف الصّوت نفسه ذاك الذي كنت أسمع مذ ربع قرن لا يَنْبُرُ إلاّ باسمًا بين حيّزي النّفع والفكاهة.. قالت: “نحن المساترية لا نتعفّف من السّمك الأزرق بل نحن نباهي بأضأله حجمًا. ونجعله مفخرتَنا .. هل بلغك حديث الشّركاو ذاك السّمك الذي يأبى أن يكبر. ويغيظه أن يتجاوز طوله طول متوسّط الأصابع البشريّة. تغطّيه هالة فضّية. ويحلو له الاندساس في مغاور شاطئ الرّاهبة السّوداء (القرّاعية) والاختلاج بين صخور مائيّة. فهو سمكٌ يسيرٌ هيّن يتنقّل بأسراب غفيرة. فتعمُر شباك الصيّادين منه بما يُبـهج سحنة الرّايس”..
ويواصل الصّوت بأسلوب تعليميّ ميسّر لقد قفزت أسعار الشّركاو ثلاثة أضعاف في مدّة وجيزة ويظلّ أهل المدينة الدّير (المنستير) عالقين به. إذ لا ينفكّ يرمز إليهم ويشير. والكسكسى بالشّركاو مأدبة مميّزة للمساترية كما مسلان الضّأن لدى بني جلاص والهمامّة والفتات لدى الباجية والبرزقان عند الكافية وبازين أهل الصّحراء …
تأخذ السيّدة المستيرية فرقة السّمك الصّغير. تضعها في آنية كالمعجنة. وتنثر عليها حبّات الملح. وتنشأ تحرّكها كالمكسكسة. وتعنف أصابعها على الشّركاو حتى تزيل قشوره. وهي لا تحتاج إلى ذلك كثيرًا. فالشّركاو يسير وتصبّ عليه ماءً يذهب بـأغشيته. ثم تأخذ السّمكات واحدة فواحدة. وتستلّ رؤوسها ما بين السبّابة والإبهام. وتتبع الرّؤوسَ الأحشاءُ.. وهكذا إلى أن تُفنيَ كلَّ الرّؤوس. وتظلّ الأحجام الصّغيرة مائجةً في ماء نظيف. فتأخذها السيّدة حفنات حفنات تنفُضها في عنف حتى ينقضي عنها الماءُ. تضعها في إناء لتدلُق عليها خليط البصل والزّيت والفلفل الأسود وقبصة إصبعين من الكمّون ومعجون الفلفل الأحمر وقبصة ملح. وتُغلغل البهاراتِ في السّمكات وتغطّيها لتكمن قليلا..
ثم تأخذ مقدارا من الكسكسى في المعجنة وترشّ عليه ماءً من راحتها اليمنى وما تنفكّ تفركه حتى يلين وتصبّه في كسكاس على قدر حامية بالمرق زيتًا وبصلاً وبهاراتٍ، وفق المراد وماءً وقِطَعًا من اليقطين الأحمر والبطاطا. وتُرمى بالمرق بضعُ سمكاتٍ لإضفاء النُّكهة، ويُستغنى عنها بعد ذلك. وحالما يفور الكسكسى فورتَه الأولى تضعه السيّدةُ في المعجنة تهدّئ من روعه وتفرك حبّاته على صغر حجمها.. ثمّ تنسُج في الكسكاس عُصيّات خشبيّة متقاطعة حتّى لا يسدّ الشّركاو عيونَ الكسكاس. و تضع الأسماكَ فوق نسيج العُصيات تغطّيها بنسيج الشّاش. وتصبّ فوقها الكسكسى. وتعيد الكسكاس إلى موضعه حتى يفور ثانية.. وما أيسر ما ينضج السّمك. وتفوح من القِدر روائحُ تُهيج الجوعَ. وتُؤجّج الرّغبةَ في الطّعام.
تفرك السّيدة الكسكسى في الصّحن الفخّاريّ العظيم (التّبسي). وتدلُق عليه المرق حتى يرتوي وهي تحرّكه بالمغرفة الكبرى. ثمّ تسوّيه وتضع عليه قطع اليقطين والبطاطا والبصل، تحيط بكدس سمك الشّركاو وتوضع الثّردة بين يدي الضّيف في شبه همس : “صحة وبالشفاء”. وتمتدّ الأيادي إلى ملاعق تشتهي الخوض في الثّردات ويُمضغ الشّركاو وكأنّ شوكهُ قد ذاب أما قلنا إنّ شركاو المنستير يسيرٌ..
وللشّركاو صُنوفُ حضورٍ أخرى في مطبخ المستيرية. فتعدّ به الصّلصة ويكون مقليًّا كما يكون مكوّنًا رئيسيًّا للفطائر إذ تقطّع السّمكات إثر تنظيفها قِطعًا صغيرةً. وتقطعُ معه ورقات البقدونس وحبّة بصل ويُضافُ إليه مقدارٌ يسيرٌ من الفارينة وقبصات فلفل أحمر وفلفل أسود وكركم وكمّون أخضر وأبراج ثوم مهروسة وكروية. ويُعجن المحصّلُ ببيضتين. وتغلي السّيدة زيتا بالطّاجين. ثمّ تأخذ من العجين الملعقةَ تلوَ الأخرى تصبّها في الزّيت كلاًّ على حِدَتها ثم تمسّد قمّة كلّ مَغروفٍ ليضحي أشبه بالفطائر تقلبها حتى تنضج. وهي صنو عند بني جلاص لفطائر الشّبتية لا ينقصها من الخليط إلاّ الشّركاو سمك المنستير الأثير..
لكنّ كثرة الحديث عن الشّركاو بالمنستير لا تُنقص شيئًا من اهتمام أهلها بباقي صنوف السّمك وغلال البحر وثماره المختلفة. فلكلّ منها طرائقُ إعداد وأساليبُ طهي.. يظلّ فيها المساترية غير مختلفين عن غيرهم من أهل البحر بالنَّهَل من خيراته وتقديمها في وجبات لا تكاد تخلو منها حياة ساحليّ وبحّار بين الشيّ والقلي والطّبخ والتّفوير والصّلي.. تنجلي الأغذية البحرية وقد تفاوتت مُصاحباتها من البهارات والنُّكَه والخضر والعصائر زيتًا وليمونًا وغيرها عبر العصور.. فهي تَشْظف حينًا وتكثرُ حينًا آخر لكنّ السّمك يظلّ ميّالاً إلى الانفراد والتّمايز عمّن صحبه وإن كان ذلك في طبق أومائدة.
أما فوائد الغذاء البحريّ فنعتقد أنّها لا تقلّ في شيء عن فوائد البحر نفسه. فهي شديدة التنوّع والاختلاف والأثر والفائدة والنّكهة بتنوّع مُنتجاتِ البحر العديدةِ. وقد عُني علماءُ الأغذية بفوائدِ منتجات البحر. وأقرّوها على أنّها الأقلَّ ضررا من جميع صنوف الأغذية الأخرى وإن أكثر منها صاحبها ودأب على تناولها دأبا لا محيد عنه. والأكثر نفعًا لآكلها. فكأنّ البحرَ يورّث الكثيرَ من لطفه وبهائه لأبنائه وبناته. فهذا الطّهور ماؤُه الحِلُّ ميّتتُه، يبقى عظيمَ الشّأن أيًّا كانت زاوية نظرك إليه. ومهما اختلف المدخل. فالبحرُ بحرٌ غذاءً وحياةً وبهاءً وذهنًا وفكرًا..
أبعد كلّ هذا- وغيره كثير- ننتظر من الناّس توكيدًا على ثراء البحر وعميم فوائده؟ لعمري إنّ دهشتَنا أمام البحر هي أسنى الأمارات وأجلاها على أنّه عظيمٌ.
فأنّى لنا بمداد يضارع مِداد هذا الأزرق الكبير ؟
وتظلّ شهرزاد البحر مسكونة بتَـيـْمه ولسانُها مقصورٌ عن عينه.
ويواصل الصّوت بأسلوب تعليميّ ميسّر لقد قفزت أسعار الشّركاو ثلاثة أضعاف في مدّة وجيزة ويظلّ أهل المدينة الدّير (المنستير) عالقين به. إذ لا ينفكّ يرمز إليهم ويشير. والكسكسى بالشّركاو مأدبة مميّزة للمساترية كما مسلان الضّأن لدى بني جلاص والهمامّة والفتات لدى الباجية والبرزقان عند الكافية وبازين أهل الصّحراء …
تأخذ السيّدة المستيرية فرقة السّمك الصّغير. تضعها في آنية كالمعجنة. وتنثر عليها حبّات الملح. وتنشأ تحرّكها كالمكسكسة. وتعنف أصابعها على الشّركاو حتى تزيل قشوره. وهي لا تحتاج إلى ذلك كثيرًا. فالشّركاو يسير وتصبّ عليه ماءً يذهب بـأغشيته. ثم تأخذ السّمكات واحدة فواحدة. وتستلّ رؤوسها ما بين السبّابة والإبهام. وتتبع الرّؤوسَ الأحشاءُ.. وهكذا إلى أن تُفنيَ كلَّ الرّؤوس. وتظلّ الأحجام الصّغيرة مائجةً في ماء نظيف. فتأخذها السيّدة حفنات حفنات تنفُضها في عنف حتى ينقضي عنها الماءُ. تضعها في إناء لتدلُق عليها خليط البصل والزّيت والفلفل الأسود وقبصة إصبعين من الكمّون ومعجون الفلفل الأحمر وقبصة ملح. وتُغلغل البهاراتِ في السّمكات وتغطّيها لتكمن قليلا..
ثم تأخذ مقدارا من الكسكسى في المعجنة وترشّ عليه ماءً من راحتها اليمنى وما تنفكّ تفركه حتى يلين وتصبّه في كسكاس على قدر حامية بالمرق زيتًا وبصلاً وبهاراتٍ، وفق المراد وماءً وقِطَعًا من اليقطين الأحمر والبطاطا. وتُرمى بالمرق بضعُ سمكاتٍ لإضفاء النُّكهة، ويُستغنى عنها بعد ذلك. وحالما يفور الكسكسى فورتَه الأولى تضعه السيّدةُ في المعجنة تهدّئ من روعه وتفرك حبّاته على صغر حجمها.. ثمّ تنسُج في الكسكاس عُصيّات خشبيّة متقاطعة حتّى لا يسدّ الشّركاو عيونَ الكسكاس. و تضع الأسماكَ فوق نسيج العُصيات تغطّيها بنسيج الشّاش. وتصبّ فوقها الكسكسى. وتعيد الكسكاس إلى موضعه حتى يفور ثانية.. وما أيسر ما ينضج السّمك. وتفوح من القِدر روائحُ تُهيج الجوعَ. وتُؤجّج الرّغبةَ في الطّعام.
تفرك السّيدة الكسكسى في الصّحن الفخّاريّ العظيم (التّبسي). وتدلُق عليه المرق حتى يرتوي وهي تحرّكه بالمغرفة الكبرى. ثمّ تسوّيه وتضع عليه قطع اليقطين والبطاطا والبصل، تحيط بكدس سمك الشّركاو وتوضع الثّردة بين يدي الضّيف في شبه همس : “صحة وبالشفاء”. وتمتدّ الأيادي إلى ملاعق تشتهي الخوض في الثّردات ويُمضغ الشّركاو وكأنّ شوكهُ قد ذاب أما قلنا إنّ شركاو المنستير يسيرٌ..
وللشّركاو صُنوفُ حضورٍ أخرى في مطبخ المستيرية. فتعدّ به الصّلصة ويكون مقليًّا كما يكون مكوّنًا رئيسيًّا للفطائر إذ تقطّع السّمكات إثر تنظيفها قِطعًا صغيرةً. وتقطعُ معه ورقات البقدونس وحبّة بصل ويُضافُ إليه مقدارٌ يسيرٌ من الفارينة وقبصات فلفل أحمر وفلفل أسود وكركم وكمّون أخضر وأبراج ثوم مهروسة وكروية. ويُعجن المحصّلُ ببيضتين. وتغلي السّيدة زيتا بالطّاجين. ثمّ تأخذ من العجين الملعقةَ تلوَ الأخرى تصبّها في الزّيت كلاًّ على حِدَتها ثم تمسّد قمّة كلّ مَغروفٍ ليضحي أشبه بالفطائر تقلبها حتى تنضج. وهي صنو عند بني جلاص لفطائر الشّبتية لا ينقصها من الخليط إلاّ الشّركاو سمك المنستير الأثير..
لكنّ كثرة الحديث عن الشّركاو بالمنستير لا تُنقص شيئًا من اهتمام أهلها بباقي صنوف السّمك وغلال البحر وثماره المختلفة. فلكلّ منها طرائقُ إعداد وأساليبُ طهي.. يظلّ فيها المساترية غير مختلفين عن غيرهم من أهل البحر بالنَّهَل من خيراته وتقديمها في وجبات لا تكاد تخلو منها حياة ساحليّ وبحّار بين الشيّ والقلي والطّبخ والتّفوير والصّلي.. تنجلي الأغذية البحرية وقد تفاوتت مُصاحباتها من البهارات والنُّكَه والخضر والعصائر زيتًا وليمونًا وغيرها عبر العصور.. فهي تَشْظف حينًا وتكثرُ حينًا آخر لكنّ السّمك يظلّ ميّالاً إلى الانفراد والتّمايز عمّن صحبه وإن كان ذلك في طبق أومائدة.
أما فوائد الغذاء البحريّ فنعتقد أنّها لا تقلّ في شيء عن فوائد البحر نفسه. فهي شديدة التنوّع والاختلاف والأثر والفائدة والنّكهة بتنوّع مُنتجاتِ البحر العديدةِ. وقد عُني علماءُ الأغذية بفوائدِ منتجات البحر. وأقرّوها على أنّها الأقلَّ ضررا من جميع صنوف الأغذية الأخرى وإن أكثر منها صاحبها ودأب على تناولها دأبا لا محيد عنه. والأكثر نفعًا لآكلها. فكأنّ البحرَ يورّث الكثيرَ من لطفه وبهائه لأبنائه وبناته. فهذا الطّهور ماؤُه الحِلُّ ميّتتُه، يبقى عظيمَ الشّأن أيًّا كانت زاوية نظرك إليه. ومهما اختلف المدخل. فالبحرُ بحرٌ غذاءً وحياةً وبهاءً وذهنًا وفكرًا..
أبعد كلّ هذا- وغيره كثير- ننتظر من الناّس توكيدًا على ثراء البحر وعميم فوائده؟ لعمري إنّ دهشتَنا أمام البحر هي أسنى الأمارات وأجلاها على أنّه عظيمٌ.
فأنّى لنا بمداد يضارع مِداد هذا الأزرق الكبير ؟
وتظلّ شهرزاد البحر مسكونة بتَـيـْمه ولسانُها مقصورٌ عن عينه.
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع