الإبحار اللوني ورهافة التشكيل
بقلم د. هالة الهذيلي بن حمودة
تشهد الساحة الفنية التونسية تعددا واضحا
ومتميزا في التجارب التشكيلية ذات النوعية المتجددة في المعالجة والدلالة
الرمزية. وتسطع تجربة الفنان التونسي زين الحرباوي
لامعة في طرق الطرح اللوني والتشكيلي في مشهدية انطباعية واضحة التوجه ومتفردة في
الصياغة الاسلوبية. فكيف يحتل الفنان التونسي الراهن منصبا في سجلات التشكيل الفني
عربيا وعالميا؟ والى أي مدى انتبه الفنان الى ضرورات التفرد في زمن بات فيه تشابه الطرح
التشكيلي من المدركات الراهنة لصيغ المعالجات اللونية؟ بين الانا اللونية
والممكنات التعبيرية في التشكيل الفني المعاصر تحتمل لوحات الفنان الزين الحرباوي
عدة قراءات ولودة ومخضبة بتأملات رمزية يحتل فيها الشكل والضوء والانطباع جزءا
وافرا من دلالة الرهافة المشهدية، فكيف ذلك؟
فماذا يرسم الزين الحرباوي؟ والى أي مدى انغمست معلقاته اللونية في بحور من
الطابع الوحشي وجمالياته التعبيرية؟ وكيف ينصرف الفنان الى البحث عن املاءات الضوء
وتباينات العلاقات اللونية في اخراج رسوماته للمشهد اليومي المصور؟
محاورة اليومي وتمثلاته التشكيلية في تجربة الحرباوي
اللونية:
ان الوقوف
امام اللوحة ومكاشفة هذا البياض الممتد يتطلب من الشجاعة ما يكفي لاعتناق الأسلوب الأمثل
لكل فنان. ولم يعتكف الزين الحرباوي طواعية، الا في مغامرة اكتشاف الضوء وامتزاجا
ته اللونية لينسج تمثلاته التشكيلية المحاورة لمشاهد متفرقة من اليومي ورهاناته.
يحتل اليومي نصيبا وافرا من حالات البناء التركيبي في أثر الحرباوي ليترجم لونيا،
مشاهد متجددة من المعيش، المتواتر، المتكرر، المتعدد المختلف، والمتشابه والايقاعي
بشكل او باخر. وتنوعت مشاهد الجلوس في المقهى والوقوف على الشرفة والتسوق والممرات
الضيقة للمدينة العتيقة في تشكيلات الحرباوي، ليحملنا بدوره الى الغوص في بحور من
الخيالات الشاسعة عبر اللطخات اللونية المتشكلة، في صور مختزلة من الاجساد والكتل وغيرها
من المكونات المشهدية.
يعيش الفنان حالات من العشق الروتيني لكل مناهج التعايش
الطبيعي للإضاءة الغامرة لربوع تونس الوطن. ولم يحاور في لوحاته جماليات التكوين
بقدر تفكيكه للإضاءة وانعكاساتها في اللون وتحريفاته التشكيلية للمشهد المصور في
نسخته التجريدية الممتلئة بتعبيرية انطباعية متوحشة. لقد مزج الزين الحرباوي بين
إمكانات تقنية متعددة يقتضي من استخداماته للطبقات اللونية والمتضادات المتراوحة
بين المضيء والعاتم والألوان الباردة والحارة والألوان المتكاملة، ليرصّف لوحاته
بطاقات إيجابية من المشهدية المبصرة.
تتمازج الألوان الحارة مع الباردة لتنسج حياكة بصرية
متفاوتة بين الاشعاع والخفوت، فتمتد بحور الأزرق بدرجاته المتعددة، تخترقها لطخات
الأصفر والبرتقالي، في محاولة للبناء المتدرج وفق العلاقات البنائية للشكل واللون.
ومن خلال الوقوف على لوحات الفنان الحرباوي نكتشف الإمكانيات التجريدية المتعددة للتصوير
النابع من ترجمة الواقع بطرق مختلفة. فلم يبين الحرباوي تفاصيل الوجوه ولا جزئيات
من السوق المصور او النساء او أجواء التشوق والبيع والشراء، بل اعتمد على لطخات
متجاورة تتمازج فيها الالوان بطريقة متمرسة ويمتلك فيها الفنان القدرة على توزيع
الملء والفراغ عن طريق التلاعب الجاد بين الفاتح والغامق.
لقد بيّن الفنان الزين الحرباوي قدرته الواضحة على
الترجمة اللونية للشكل الواقعي وصناعة واقع تجريدي موازي له، فتكتمل المشهدية
التعبيرية وفق مراوحته اللونية وانعاشه للضوء وطاقاته الايقاعية في مساحة اللوحة
المصورة.
الفضاء المفتوح والمغلق في عوالم اللون والضوء:
ان الإبحار في عوالم اللون النابعة من أثر الحرباوي،
يوقع المتلقي طواعية في فتنة الضوء والدهشة من كمية الإشعاع اللوني المسلّط على
البياض الممتد في مساحة اللوحة. تعبق اعمال الفنان بإثراء جمالي خارق للمشهدية
العادية لتسطع الوانه بشدة وتضمن درجة حرارة لونية مرتفعة يلطفها بفطنة واتقان عبر
الألوان الباردة المتراوحة بين الأزرق والأخضر وتدرجاتها المتعددة. ولم تخفت ألوان
الزين الحرباوي ولم تبهت درجة لمعانها واشباعها في مراوحته بين تصوير الاماكن
المغلقة او المفتوحة. ومن خلال مراوحته لمواضيع تنهل من اليومي وتبرزه في حلل
استيطيقية متعددة، فان الإضاءة الشديدة او الملطّفة نوعا ما تبرز بطرق متعددة
ومتجددة، في شرفات البيت او على حافة المقهى او في اركان السوق او الطبيعة الصامتة
وغيرها.
تتميز تجربة الفنان زين الحرباوي الفنان التونسي المعاصر،
بأهمية التطويع اللوني وامكاناته الرمزية المستوحاة من الجماليات التعبيرية
والوحشية والانطباعية في مزيج هائل يقضي بتكوين فني متفرد وأسلوب متجدد. وفي
معالجته الشغوفة بالضوء اكتسبت لوحاته مشهدية متجرره من الواقعية الصرفة، فكان
المشهد التشكيلي قراءة لونية مخضبة بالصور المستوحاة من الواقع المعيش. وضمن
مراوحته بين الشكل وظله وبين الجزء والكتل وبين اللون ومكمّله، تكتمل رهافة
التشكيل الفني للأثر التصويري، وتستمر اللعبة البنائية في تطبيقاته التقنية واللونية
والشكلية ضمن رحلة يافعة لا تنبض.
سوسة 06_04_2019
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع