بقلم الكاتبة والاديبة التونسية أبتسام الخميري
دراسة تحليليّة ذرائعيّة لديوان: "في كفّ اليقين"
للشّاعرة التّونسيّة عزّة مباركي بقلم أبتسام الخميري
المقدّمة:
لعمري إنّ الشّعر هو مرآة تعكس لنا خبايا الشّاعر و مكنوناته كما يقدّم لنا صورة عن تلك الفترة الّتي عاشها صاحبه.. فنتعرّف جملة القيم و المبادئ الّتي تبنّاها،
و تلك هي وظيفة الشّعر منذ عصور رغم التّطوّر و التّقدّم بمختلف أنواعه و تخومه..
و ها نحن نرتحل عبر المفردات لنغوص في طيّات النّفس نلامس إحساسها بالوجود، تيهها، آلامها، وطنيّتها و إنسانيّها لترتاح هنيهة عند العشق و الهوى أو الهذيان..
إنّها مجموعة "في كفّ اليقين" لعزّة مباركي الباقة الشّعريّة الأولى الصّادرة عن الثّقافيّة للطّباعة و النّشر و التّوزيع المنستير 2017 الّتي نروم دراستها وفق النّقد الذّرائعي كنظريّة جديدة لصاحبها عبد الرزّاق عودة الأغلبي و هي نظريّة تحليليّة نقديّة علميّة تعتمد على مداخل محدّدة و علوم نفسيّة و نظريّات فلسفيّة و هي اثني عشر مدخلا.
في البدء نتعرّف على شاعرتنا:
التّعريف بالشّاعرة:
عزّة عمر مباركي معلّمة برياض أطفال، منشّطة برنامج ثقافي إذاعي، شاركت في عدّة ملتقيات و مهرجانات ثقافيّة في تونس و خارجها، آخرها مهرجان أكاديميّة الزّهراء بالإسكندرية في دورته الأولى، هي عضو بهيئة جمعيّة صالون الرّبيع الثّقافي، ناشطة في المجتمع المدني و المجال الثّقافي.
"في كفّ اليقين" أوّل ديوان صدر سنة 2017.
1)المدخل البصريّ:
"في كفّ اليقين" عنوان يدغدغ الحيرة فينا منذ الوهلة الأولى، مكوّن من مركّبين: مركّب جرّ و مركّب إضافي لتأكيد العلاقة بين الكفّ و اليقين.
الدّيوان من الحجم المتوسّط. مائة و اثنان و عشرون صفحة، ضمّ تسعةً و خمسين قصيدة من الورق الجيّد، أغلب القصائد وردت صفحة واحدة تدلّ على نفس الشّاعرة المتشظّية بين آيات الأرق و الانتظار و الاغتراب و النّزف و هذا الكمّ من الرّسائل الّتي تبعث بها إلى الآخر.
فهل ترانا فعلا نرفل في كفّها المتلبّسة يقينا؟؟
حيث أنّه لغة: الكفّ جمع كفوف و أكفّ، كفّ اليد راحة اليد مع الأصابع، الرّاحة مع الأصابع في اليد.
أمّا اليقين لغة هو زوال الشكّ و انعدامه و هو صفة من صفات العلم الّتي تفوق المعرفة، أمّا اصطلاحا فقد اختلف العلماء في تعريفه فهو سُكون الفهم مع ثبات الحكم و البعض قال بأنّه يعني تعلّمْ الشّيء و لا تتخيّل غيره..
عسى شاعرتنا تقدّم لنا مفهومها لليقين و علاماته( الرّجوع إلى اللّه، التّرفّع عن الذمّ، الابتعاد عن المدح، تخفيف مخالطة النّاس في العشرة...) و درجاته الّتي بلغت: علم و حقّ اليقين الّذي اكتسبته في الحياة..
بيد أنّ عزّة مباركي بعد أن تأخذنا معها على متن سفينتها مدجّجين بالغواية أن نلامس هذا اليقين، تعيدنا إلى حيث بدأنا لا إجابة عندها.. فمن تراها؟؟
نبحر في قصائد مختلفة الدّلالات و المعاني و الصّور فنراها بين اللّفظة الواحدة: المعرّفة و النّكرة: مثال: المهاجر/ الضّال/ ليلي/ حبيبتي/ ينتهي/ اغتراب/ انتظار....الخ
و بين المركّبات: نبوءة المجانين/ آيات الأرق/ وجع المدائن/ بائع الخبز/ ثورة اليقين.. الرّسالة الأخيرة/ أسئلة منتحرة .. كما لاحظنا استعمال الأسئلة الاستنكاريّة: من الخائن
و الإقراريّة: رغما عنكم؟ أنا غزّة..
لقد قدّمت الشّاعرة ديوانها بصورة مميّزة تنمّ عن إبداع تحمل بين طيّاتها دلالات و معاني علّها تلتقي جميعها في كشف خبايا هذه القصائد النّثريّة كلّ ذلك نجده في الغلاف الّذي يحمل معجما آسرا بالدّلالات، إنّها أنثى الصّدق و البراءة، جسدها عزف على أوتار الوجع حينا
و العشق أحيانا، تنزف، تقطر آلاما و أحلاما،
هذه المرأة تتدرّع بآلة الموسيقى( القيثارة) لا يظهر الوجه سوى نظّارات سوداء، إنّها النّظرة القاتمة الغارقة في الحزن.. بينما تمسك بيسراها رسالة. نعم، إنّها رسالة و قد أكّدت لنا ذلك حين تصفّحنا الدّيوان أنّها رسالة إلى آذان حجريّة ص 26 فتقول:.......
و نتأكّد أنّ ما تحمله المرأة إنّما هي مدن و خرائط للعالم الّذي نحياه كما تخيّلته عزّة مباركي و تصرّ أنّها رسائل بطعم الماء ص 96 فتقول:........
و تتوعّد فهي رسالة على عجل ص 90. لتؤكّد لنا أنوثتها و ذاتها البارزة بقوّة بين ثنايا القصائد و تعلن الرّسالة الأخيرة ص 35 تمرّدا و رفضا لما سائد و موجود فيقوى الحسّ الوطني و الوجودي.
البؤرة الثابتة:
لا يختلف اثنان أنّ الدّيوان البكر ضمّ قصائد وجوديّة بامتياز تشدّ القارئ، تحتفي بالأنا و الذّات العليا البارزة بإطناب "حوّاء أنا" ص 20 و كذلك بالوطن " يتيمة الوطن" ص 83
هي الغربة في الوطن و السّفر بحثا عن وطن بديل، هي المتسائلة على الدّوام: ترى هل سيأتي الفجر من جديد، أم سيظلّ قٌبلة...ص 38 هل وصلتهم رسائلنا..؟ هل لي بمن يحتمل أشواقي؟ ص 24 هل يكفي ما تبقى.. ص 41 هل ستعود صور العائلة..؟
و مع هذه الأسئلة يتراءى لنا بصيص أمل حين تعلن عزّة مباركي: أنا طفل الأمل و يلتقي الحزن بالفرح فتتلاشى أسئلتها المنتحرة ص 63 ، إنّها الأحلام السّاكنة أغوارها لا تفارقها رغم قتامة ما يوجد في العالم الخارجي في وطنها.. ص 67
فتقول: " كنتُ حكيم المدينة و حاكمها/ تأبّطتُ أحلامي و محبرتي..
هذا هو اليقين الّذي يسكنها، إنّها الأقحوان ص 79 في صدرها الأمنيات ص 85" هيام"
و هي نبأ من هناك، من عالم غير هذا العالم، مستلهمة من الموروث الدّيني ما طاب لها،
إنّها كما تقول ص 111: أنا أرض تعشق السّماء" إنّها الثّبات و العطاء و الاتزان..
ديوان "في كفّ اليقين" رحلة ممتعة في عرسات الوجدان تجنح بنا كلّ مرّة و بإلحاح للسّؤال عن الوطن، عن المكان عن الانتماء تستهدف تقوية حبّ الوطن و العيش بسلام
و سكينة تحت ظلال الرّجولة و العروبة.
الـــتـّيـمة: ( الموضوع)
لا شكّ أنّ الشاعرة تحبّ الوطن للنّخاع، تعشق بصدق لذلك عرضت لنا أوجاعها: وجع المدائن/ الشّحاذين/ بائع الخبز... حتّى في العشق هي تراقب همسات العاشقين لكنّها تهدأ و تستكين بوجود الحبيب حين تقول: ص 120 "الآن أدركت أنّي قبلك/ كنت في خانة العميان.
مقاييس الدقّة في الإبداع الشّعري:
إنّنا إذا وضعنا القصائد تحت مجهر مقياس الصّحة و الخطأ و مقياس الجدّة و الابتكار و مقياس العمق و السّطحيّة فإنّنا قطعا لن نلمس سوى صحّة ما ذكرت و وصفت لنا من معالم الشّوارع و المدن و نزف الوطن بكلّ جديّة، كما حضر عنصر الادهاش من خلال جملة التّساؤلات الّتي لا تروم لها جوابا.. كما وظّفت الشاعرة الموروث الدّيني و تواترت الصّور التّاريخيّة كحنين... فعلت الذّات: "أنا شهرزاد" ص102
المدخل الاستنباطي:
أغلب القصائد كانت مرآة جدّ مصقولة تترجم هوسها بهموم الوضع السّياسي.. صور و دلالات تترجم أحاسيسها حبّ الوطن حدّ الهذيان ، حبّ الحياة بلا مقابل تقدّم دمها قربانا حين تقول في نزف ص 103:
و تنتهي بالأمل: لا تحزن يا وطني..
الخاتمة:
كان سفرا روحيّا بين أفناء القصائد توفّرت بها كلّ مكوّنات الشّعر الرّصين و عُدّ عملا فنيا راقيا نفخر به في المكتبة العربيّة التّونسيّة.
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع