المصفحة
لمحتها في الضفة الاخرى من حقل القمح الممتد امام ناظري...ريح خفيفة تهز السنابل الممتلأة هزا..فتتمايل في خيلاء و كبرياء..تزيدها أشعة شمس الصباح رونقا وجمالا...كنت احمل كتابا متسللا بين السنابل اتعجل الخطى لأقترب منها..قبل ان تبتعد ملاحقة بقراتها خوفا من ان تدهس الزرع . و في اللحظة التي كنت أهم فيها بالاقتراب منها مندفعا برغبة جامحة في ان اراها و أتحدث معها كما كنت أفعل من قبل..تهاجمني كتيبة من الكلاب ..كان نباحها يهز الأرجاء و يزرع في قلبي الخوف. تسمرت في مكاني و شلت في كل قدرة على الهرب. في تلك اللحظات تعالى الى سمعي صوت * سالمة* من بعيد هادرا يأمر الكلاب بالتوقف.
كان من الواضح انها هي من اطلقت الكتيبة لترويعي وهي التي أصدرت الامر بانسحابها...
صوتها القوي الواثق من نفسه كان وحده كفيلا بمنع الكارثة...لقد وصلت رسالتك يا سالمة ..انت السيدة هنا ..أنت الاقوى..اعترف لك بذلك.. ما يحيرني لحظتها هو لماذا تتجاهلني؟ لماذا تتجنب لقائي ؟ لا أذكر منذ عرفتها اني أسأت اليها... او جرحت مشاعرها ... انها تعلن بأنها الامرة الناهية ....توقفت الكلاب عن النباح لكنها ظلت في مكانها..عندما حاولت ان اتقدم لالتحق بسالمة فوجئت بان كل الكتيبة المقاتلة تمنعني من التقدم خطوة واحدة. زمجرت محذرة من مغب٤ة اعادة المحاولة. فهمت انها لم تتلق الامر بالسماح لي بالتقدم. استدرت متراجعا الى حيث الشجرة التي استظل بها وأقضي الساعات الطويلة تحتها كل صيف... اخذ مني الضيق كل مأخذ و دكتني الحيرة دكا : لماذا تفعل معي ما تفعله؟ القيت بالكتاب على الحصيرة قرب اشيائي المتناثرة و جلست متهالكا من شدة الاعياء...كانت سالمة فتاة ابنة الريف ترعى بقراتها و اغنامها في الحقول المجاورة..تعرفت اليها منذ سنة لما كانت ترعى بالقرب من الشجرة التي استظل تحتها ..أذكر انها أثارت انتباهي عندما عمدت غاضبة الى مصارعة حمارها الجامح و اسقاطه أرضا..كانت متوسطة القامة ..شعرها الاصفر المتدلي على كتفيها بلا ضفائر أَنفها دقيق صغير كأنّها من الأميرات.
كَان شَعْرُهَا مثل ُسلُوك الذّهبْ يَنْسَدلُ فوق كتفيها .
خَفيفَةٌ رشيقةٌ كَأَنَهَا فَرَاَشةٌ تَمْرَحُ في حَديقٌة.
عَينَاها لوزيَّتَانِ بِهِمَا كُلُ الأَلْوَانِ.. وجهها الصبوح المشرق..يشعرك بالارتياح...
كنت رغم جمالها الفاتن لا ارى فيها سوى صورة الفلاحة الساذجة و البسيطة..الضاحكة و التي تلح في طرح أسئلة مسلية لا اعرف كيف اجيب عنها لسذاجتها...كنت اغرق في القراءة الى ان يفاجئني صوتها المدوي الصارخ بكل اشكال السب و الشتم تكيلها لبقراتها و نعاجها..فأستفيق من اغراقتي ..فتقترب مني معتذرة عما سببته لي من ازعاج..كانت اعتذاراتها المعللة بعشرات التبريرات اكثر ازعاجا من اصوات الشتيمة التي تطلقها على بقراتها و نعاجها.... و في كثير من الاحيان كنت ادعوها للاكل معي ..و عندما تمتنع لا الح عليها كثيرا و اكتفي بان اقدم لها قطعا من البسكويت او الحلوى فتقبل في خجل . .. كانت تسالني عما افعله هنا بين الحقول..و كانت تستغرب كثيرا من ادماني على القراءة بشكل ساخر احيانا..كنت اقول لها باني اهرب من الحياة اليومية المنفرة في المدينة لانفرد بنفسي في جو الريف الصافي.. قالت لي مرة : انت تقرأ لتنسى ؟؟ هكذا فاجاتني..لم اجب عن سؤالها.لكني لم استطع ان اخفي الوقع الذي احدثه سؤالها في نفسي ..قلت لها ؛ ها انت قارئة جيدة ..حدقت في بعينيها الجميلتين فاتحة ثغرها وهي تسالني : هل تأتي الى هنا لتنسى فشلك؟ انت مخطئ ..انت تهرب من جحيم الى جحيم اخر..لا يغرنك صمت الحقول و سكون الاشياء هنا في الخلاء ..ما تراه يخفي اعاصيرا لا تسمعها..
كانت احيانا تحمل الي كسرة شعير و قدر من اللبن...و تضعها بالقرب مني ثم لا تلبث ان تعود مسرعة لتهش على مواشيها...لم نتحدث كثيرا لانها كانت احاديث سريعة و متقطعة لانها ما ان تجلس هنيهة حتى تقغز من مكانها سريعا نحو مواشيها غاضبة مستحضرة كل مصطلحات الشتم و السب و كل ادعية الشر على كل هائشة لا تنضبط لقواعد الرعي... من يشاهدها يلحظ للوهلة الاولى هذا التنافر الغريب بين ما يظهر عليها من جمال و رقة و انوثة و ما يبدو في سلوكها من سطوة و غلظة و اندفاع لممارسة القوة...قوة تستعرضها على مواشيها ..و كأنها تعاني تفككا في الوعي بذاتها كأنثى ..الكلاب تأتمر بأمرها..المواشي تخشاها..صوتها القوي المدوي يسحق في السامع كل شعور بالجمال الذي يسكنها..و قد يكون هذا سببا واضحا في اني لم انتبه لأنوثتها او ما منعني منذ عرفتها من ان ادقق في تفاصيل انوثتها..منذ رأيتها لاول مرة لم اشهد انها غيرت فستانها الاسود البالي الا مرة او مرتين..و الحقيقة اني في المرات التي تحدثت فيها الي..وقرت في ذهني فكرة غريبة : انها لا تختلف كثيرا عن المواشي الجامحة التي ترعاها.. بل اني كنت اتصرف معها على هذا الأساس : احرص كثيرا على الا اسألها عن اسرارها الخاصة خوفا من ردة فعلها ..قد يألفك كلب جامح لكن قد يهجم عليك في كل لحظة عندما تقترب منه او تحاول اختراق عالمه الخاص حتى و ان كان يأكل من يديك...
مالذي حدث الان ؟ لماذا اصبحت مهووسا بها ..؟ مالذي حولها في قلبي من مجرد ماشية من المواشي الى أمرأة تفتنني ؟ لماذا انقلبت علي ؟ لم أعد كما كنت ..لقد احتلت عقلي ووجداني ..فهل أحست ذلك فقررت تعذيبي؟
منذ أسبوعين و عندما اشتد القيظ ..كنت كعادتي تحت الشجرة مستسلما لغفوة .. فتحت عيني لاجدها واقفة امامي و هي تحمل قدر اللبن ..دعوتها مترددا الى ان تجلس ..كانت علامات الغضب ظاهرة على محياها . لم أجرؤ على ان أسألها خشية من ردة فعلها ..سألتني معاتبة وهي تنظر الى قدر اللبن : لماذا لا تأكل كسرة الشير التي اتيك بها..لماذا لا تشرب اللبن الذي اجلبه اليك..ثم بأسلوب ساخر مفخخ : هل تخشى أن اضع فيه السحر؟؟ قالت ذلك و غصت بضحكة مجلجلة زلزلت هدوئي ..هالتني المفاجأة وجرأتها الغريبة..ثم توقفت فجأة عن الضحك و حدقت في عيني بعينين ملتبتين حطمتا اخر ما تبقى لي من هدوء و اتزان : انت تحتقرني !!!
لم اجد ما أقوله ..اختفت كل الكلمات من عقلي و التوى لساني و لم أعد قادرا حتى على التنفس ...ظلت صامتة تنتظر اجابتي لكني لم افعل ..فماذا عساي اقول ..مالذي يمكنني ان اقوله لوحش كاسر استولى على كل المواقع و كسر كل اسلحة الدفاع التي املكها. كل الاسوار التي اتخفى وراءها تهاوت ..ولم يبق لي من حصن سوى صمتي ..
تهللت اساريرها فجأة وسالتني ان كان بامكانها ان تجلس ..كان ذلك التغير المفاجىء في اسلوب حديثا من شأنه ان يعيد الى نفسي الهدوء و التماسك..اشرت اليها مبتسما ان تجلس و قد بدأت أقنع نفسي باني الاقوى وانها ليست الا راعية امية لا يمكنها ان تسطو على ذاتي بهذه الكيفية. قالت بهدوء ؛ لماذا لا تأكل من اكلي؟ انت لم تسألني مرة واحدة عن حياتي..مستغرق في كتبك و كأنك لا تملك غيرها. انت لم تكلف نفسك و لو مرة واحدة ان تنظر الي ..غيرت تسريحة شعري الف مرة..بدلت فستاني عشرات المرات ولم تتيفظ!! حتى كسرتي لا تأكلها .ولني الذي اقضي الليل الطويل احضره لك لا تشربه !! اليس لي الحق في ان اغضب ...صمتت قليلا وقد بدا عليا الانكسار قبل ان تهم بالمغادرة...لكني و تحت وطأة شعوري بالذنب الذي ارتكبته في حقها أمسكت يدها و طلبت منها ان تبقى .
شعرت من نبض يدها بانكسارها و تهاويها المفاجىء..حركة يدها المستسلمة تنبأ بان أقنعة السطوة التي تتخفى وراءها قد سقطت...لقد بدت في قمة ضعفها..متهاوية ..جلست قبالتي و قد حرصت على اخفاء دموعها...كان فستانها الاسود الشفاف البالي يكشف انحاء مختلفة من جسدها الابيض الغض ..الصدر المتكور ..الفخذان...وكأنها احست بعيني تسترقان النظر الى تلك القلاع فوضعت يديها على صدرها مخفية ما يمكن اخفاءه...ناسية انكشاف القلاع الاخرى..
تلاطمت في داخلي مشاعر متناقضة ..الشفقة و الرغبة الحيوانية..احسست بضعفها.... كنا وحيدين بلا رقيب..انتابتني مشاعر الرغبة في الاستمتاع بوليمة سهلة ..رغبة الحيوان الجائع في الانقضاض على فريسة طيعة لا تقاوم و لا تقاتل...وكأنها قرأت ما يدور في داخلي من انفعالات بادرت الى القول : لا يغرنك ما يظهر من ضعفي ..انت فقط ساعدني في ان اتعافى..قلت في ارتباك واضح عمقته نظرات عينيها المشعتين ذكاء و سطوة : مالذي يحيرك؟ ..سهمت لبرهة و كانها تستجمع شجاعتها : انا عصية على الرجال..و تلك مأساة حياتي ..هل في كتبك حكمة تنقذني من السقوط ؟ كانت كلماتها طلاسم مبهمة لا افهمها ..لم انبس بكلمة واحدة منتظرا بقية ما ستقوله...بعد تردد لاحظته مما بدا على وجنتيها من تورد يشي بمعاناتها الصامتة قالت : انا مصفحة.. هل تفهم..لا يقدر علي أعتى الرجال. محصنة ضد رغبات الرجال ولهيب ذكورتهم.
كانت كلماتها بمثابة الصعقة التي زعزعتني ..لم تأبه لحيرتي واسترسلت : بدأت ماساتي منذ تزوجت ..و تحديدا منذ ليلة الدخلة التي لم افرح بها..زوجي عجز عن تدمير الحصون و القلاع...لم اشعر بشيء..و لم يفعل شيئا..ظللت في ركن الغرفة انتظر ..ما أن يقترب حتى يتداعى و يهتز و ينهار..حاول في الليالي التالية لكنه لم يفلح ..كان يحارب حصونا م قلاعا عصية على الاختراق..كنت اراه يتصبب عرقا ..وكانه يحتضر..و في النهاية و في ليلة ليلاء فقد فيها الصبر انقض علي ليقتلني ..لينتقم لرجولته... لاحساسه بالعجز..
تمكنت من الافلات باعجوبة ...
لم يكن لي من الاهل سوى امي المريضة ..القيت كل اللوم عليها ..صرخت في وجهها لأنها هي من حطمت حياتي ..عندما سلمتني الى عجوز شمطاء تعشق ان ترى الرجال يتعذبون.. ما اذكره اني و في سن العاشرة اقتادتني والدتي الى قريبتها ..و كانت و نحن نسلك الطريق الوعرة تحدثني عن خوفها من الوحوش المسعورة التي تحاصرنا وتتصيد الفرصة للصيد .كانت تحدثني عن خشيتها من ان تتكرر معي صورة الكارثة التي تعرضت اليها هي عندما تداول على اغتصابها مجموعة من الرعاة الغرباء لما كانت وحيدة في المرعى..لقد تركوها خرقة ملقاة قرب شياهها و كلابها... كانوا ثلاثة و لا تعرف الى الان من كان والدي...
نزل علي كلامها نزول الصاعقة ..لا ادري كيف انطلقت من فمي صرخة : رباه يا سالمة ! كم انت تعيسة شقية ..يحاصرك السواد من كل جهة و لا ضياء في الافق ..
غصت بكلماتها ..و انهمرت دموعها سيلا يجرف ما حوله..صمتت سالمة لبرهة ثم واصلت :
كنت اسمع كلامها ولا افهم ...كل ما فهمته هو انها كانت تسعى بكل قوتها ان تحميني و تحصنني ضد الافتراس. ...وجدتني في كوخ جبلي أمام امرأة عجوز بلا اسنان فاض انفها المكور ببقايا "نفة" نتنة عصرت رائحتها الكريهة على قلبي ...عارية من كل ملابسي..طوقتني أمي من الخلف ..كنت اشبه بالذبيحة التي تنتظر ساعة السلخ..لم اكن افهم حقيقة الطقس الذي ستمارسانه..أخذ مني الخوف كل مأخذ..وشرعت في الصراخ و العويل . كنت استنجد بأمي لكنها صرخت في وجهي زاجرة..: وضعت العجوز يديها بين فخذي ثم وضعت راحة يدها اليمنى على الأخدود الصغير النابت في الاعلى متمتمة بكلام لا افهمه ..ثم اخذت موسى حلاقة و جرحت ركبتي اليمنى سبعا..و غمست في الدم السائل سبع تمرات و امرتني ان آكلها تباعا .و أن اردد : "" أنا حيط و ولد الناس خيط"" سبع مرات..لم اكن افقه ما تعنيه تلك الكلمات..كل ما فهمته بعد ذلك و من خلال تهلل اسارير وجه امي ان الربط قد تم و انني اصبحت مستعصية على الرجال...ومرت السنوات ..لكن وقبل زواجي بأيام حلت الكارثة : لقد ماتت العجوز ..هي وحدها من كانت تملك مفتاح القفل. كان على القفل ان ينفتح قبل ليلة الدخلة.
وضعت يدي على كتفيها..ضاحكا..: ما تروينه لي يا سالمة وهم و كذب..شعوذات السحرة و الاغبياء....عندما ينغلق قفل قلبك و يتراكم عليه صدأ السنين... تسكنك الشكوك في كل شيء ..و يتحول كل شيء في جسدك الى قطع من الجليد.. تقسو المشاعر..و تتبلد المشاعر.و.تنغلق كل مسام الجسد ..جفاف قلبك يا سالمة هو الذي يفسر ضعف الرغبة و برود الغريزة... كل مساكنك محكمة الغلق محصنة ..لا تخترقه النسائم...عجزك انت سرى الى زوجك...احساسك بالخوف من الاختراق تسلل الى اعماقه هو فلم يعد قادرا على الانتصاب...تراخى شعوره بالذكورة و تسلطت عليه المخاوف من الخصاء...لا يرتوي العطشان من بئر جف ماءه..خرير الماء المنساب في الجداول يثير رغبة العطشى في الارتواء...لم يجد فيك زوجك ما يثير ه ..اختنقت لديه الرغبة لذلك اعتقد انه السحر...واعتقدت انك مصفحة...المعضلة ليست في قدرات الجسد بل في كفاءة القلب ...مفتاح القفل عندك انت يا سالمة..
كنت أمسك بيديها الباردتين ..ضغطت عليهما ضغطا خفيفا..شعرت برعشة سرت في جسدها...و حرارة توهجت في كامل جسدها.. ..لم تكن بالتأكيد قد استوعبت كل ما حدثتها به...لكن تهلل اساريرها و بريق عينيها المشع يشي بأنها أدركت دون ان تفهم بأن مسؤولية تغيير حياتها تقع على عاتقها هي..وان ما حدث في حياتها لا يمكن ان يأسر وجوده و يسحق داخلها الامل في السعادة.... فالامل في تحقيق السعادة ينبت في قلب الشعور باليأس و الخيبة و الألم....
وضعت يدي على ركبتها اليمنى ...فلاحت لي الندبات السبع ..تلك الندبات التي تذكرها دوما بمأساتها.. و في ارتعاشة الظمأن أطبقت براحتيها على يدي و ضغطت بهما على فخذيها ..وأرتمت بين احضاني ..و لأول مرة تكتشف انوثتها ...مررت يدايا في كل انحاء الجسد الغض الفاتن..والقى قيظ الشمس بلهيب الرغبة..و طراوة العرق المتصبب بين الجداول.. التصقت شفتاي بشفتيها ..ترتشفان الرحيق النازل بعد جفاف السنين....امسكت بيدي و عصرت بهما صدرها المتفجر بالشهوة...تمزق الفستان الاسود البالي وانكشف ما تحته من ضياء كان متخفيا..وسالت الاودية بمياه الرحيق المخزن في التلال و الهضاب...انهمر الماء و تكسرت السدود و الحصون و القلاع ..لم يعد هناك ما يمنع من اختراق الاسوار....الاخدود المستعصي على الاختراق سقط ..وهم السطوة و الشدة تهاوى..لا اسوار و لا حصون و لا شعوذات السحر قادرة على منع ثورة الفاتحين....
***********************
لماذا تتجنب لقائي ؟ ما الذنب الذي ارتكبته؟
لماذا غلقت المنافذ المؤدية اليها...
ها انا تحت الشجرة أقيم ..ولم تعد لي رغبة في قراءة حرف واحد ...لماذا أهتم بها ..ولم تكن تعني لي شيئا..ما اعلمه على وجه اليقين أني أنا من حررتها من سطوة ماضيها المظلم..عندما افترقنا منذ اسبوعين كانت سعيدة جدا..تورد وجهها ..و ضحكت كثيرا..غنينا معا ..ولاول مرة لم تهتم بشرود مواشيها ولم تفزع كما كانت تفعل من ان تدهس المواشي مزارع القمح المترامية...القت بنفسها علي بين السنابل الذهبية الشامخة ..و ارتوى التراب بعرقها ...رافقتني بين الحقول الى حيث سيارتي الرابضة على الطريق ..كلابها الرابضة بين الهضاب كانت تنبح احتفالا بلحظات سعادة مولاتها ..لقد انتصرت ""السلفع"" على نفسها..
لا أدري كم قضيت من الوقت تحت الشجرة ..تأكلني الحيرة و يقضني قلق السؤال... لم تتحرك كلاب الحراسة من مكانها...ظلت في مكانها تسد المنافذ... لا ادري اي جنون انتابني عندما وقفت فجأة وصرخت بأعلى صوتي في وجه الكلاب الحارسة : لماذا منعتني مولاتكم من لقائها؟ اخبروها اني أكرهها ..احتقرها..قولوا لها يا ناكرة المعروف لماذا تفعلين معي هذا؟؟ انطلق هرير الكلاب وكانها فهمت ..و قد تسمع سالمة الهرير فيحن قلبها....
هدني قيظ الشمس الحارقة..و زعزعني قيظ الغضب و الحيرة و القلق...لا ادري كم سيجارة دخنت...حاولت مرات عديدة ان اسلك طرقا اخرى بين الحقول لاصل الى كوخها..لكن دون جدوى ..لقد شددت سالمة الحراسة ..فلا منفذ اليها الا بان ادفع الثمن...ان تتدفق دمائي و يتفتت لحمي بين انياب الكلاب ..هل هذا مقصدها ؟ هل تريد سالمة ان تختبرني؟ لا يمكن لأحد ان يقدم دمه قربانا من اجل نزوة..هل هذا ما تريده سالمة؟؟؟؟
قررت المغادرة..سلكت طريق المنحدر المحاذي لحقول القمح...: رباه هل احبها...مازالت همساتها في اذني..مازال رحيق شفتيها في فمي...مازالت رائحة عرقها في انفي...مازلت اشعر باني اغتسل بمائها...حشرجات صدرها الصارخ باللذة ما زلت اسمعها..انها تسكنني. سالمة ...امنحيني فقط لحظة ارى فيها وجهك واعدك بان ارحل الى الابد. ما اتعس شعور الخيبة حين ارحل و لا اراك.
عندما اقتربت من السيارة الرابضة على الطريق..سمعت صوت طفل يناديني ان انتظر..دق قلبي ..تجمد الدم في عروقي..منتظرا رسالتها في لهفة...اقترب مني الطفل : عمي تقول لك سالمة : لا تتعجل ..دعني وحدي قليلا ..و تاكد اننا سنلتقي قريبا..لا تغير الشجرة.
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع