أنا رصيف الشّارع الذي يحمل عبء أجسادكم و ثقل أفكاركم و ينوء بأحزان قلوبكم و أدران أرواحكم و يئنّ تحت وطأة لا مبالاتكم و قِلّة معروفكم ..
أنا الرّصيف البارد شتاء ، الحارق صيفا، الغارق ربيعا و المغبّر خريفا..
أعلن أني تعبتُ منكم أيها البشر..
لماذا تتعجّبون ؟؟ أ لأنّ قلبي يؤلمني ؟؟
أجل إنّه يتمزّق من الدّاخل و نياطه تكاد تنفرط من شدّة الوجع..
لا تصدّقوا أنني مجرّد من المشاعر و الأحاسيس فقط لأنني صُنِعْتُ من صخر ..
فأنتم أيضا خُلِقْتُم من طين لازب و لكن بقلوب كالحجارة أو أشد قسوة ..
صحيح أنني لا أتحرّك من مكاني لكني أراقب كلّ شيء..
و جسدي المطروح أرضا كملاكم خسر أهمّ جولاته مضرّج بالجراح..
فكلّ حذاء داسني و كل كعب عال انغرس في أديمي و كلّ نعل مسح قذارته في بشرتي ..ترك ندبا عميقا في حجارتي التي كلّما ازددتم ببشريّتكم صلفا و قسوة،
تشقَّقَتْ و رقّتْ حتى يكاد الماءُ يندفع دمعا من عينيّ..
أنا أكاد أبكي على تلك المرأة التي كانت تركض خلف صغيرها..
تحذّره من سيارات مجنونة تبتلع الإسفلت ابتلاعا ..
تصرخ به : يا بنيّ، ابتعد عن الطريق و اصعد على الرّصيف..
أردتُ أن أفتح ذراعيّ لأختطف ذلك الصبيّ من فوضى الطّريق..
و أراد هو أن يقفز إلى حضني هربا من صوت صرير المكابح المريع..
و لكنّه لم يجد مكانا فارغا بين جنباتي التي تنتفض لاحتضانه..
لقد احتلّني الباعة المنتصبون فوضويا كما شاؤوا.. و معهم ثلّة من الأكشاك و المطاعم المتجوّلة..
و كلّ صاحب مقهى أو مطعم انتهك حرمتي و ألقى عليّ بكراسيه و طاولاته و ما تيسّر من أرجيلات..
لم أعد أستطيع أن أميّز بين الوافد و المقيم ..
و إذا أردتُ أن أحتجّ تمطرني مضخّمات الصوت من كل حدب و صوب بوابل من جعير أشباه المغنين ..
لا تكاد تفرّق بين أصواتهم و بين النعيب و النعيق أو النهيق ..
أودّ أن أصمّ آذاني عن كمّ البذاءة المتصاعدة من مزابل الأفواه المجنونة..
أودّ أن أصرخ .. أودّ أن أحتجّ .. أودّ أن أثور ..
فيبصق أصحاب العقولة الغائبة أو المغيّبة في وجهي تلك العبارة التي حفظوها و استهلكوها حتى مجّوها " أنا حرّ .. أفعل ما أريد "
أستنكر هذا التصريح الفجّ متسائلا: ما دخل البذاءة بالحرّيّة؟؟
ما علاقة البشاعة و سوء الذوق بالحرّية ؟؟
هل الحرّيّة تعطيك الحقّ لتقتحمني و تحتلّني و تغتالني ؟؟
هل تعطيك حرّيتك الحقّ لتحرم ذلك الطفل البريء من الاحتماء بين أضلاعي الحجرية من تلك السيارة المجنونة التي دهسته؟؟
هل تلك هي حريتكم التي لطّخت جسدي العتيق بدماء ذلك الصبي الصغير؟؟
هل حريتكم تلك هي التي ألقته على صدري جثة هامدة ؟؟
هل حريتكم تلك هي التي سرقت من الأم المكلومة فلذة كبدها ؟؟
حتى الأشجار التي كانت تؤنسني قطعوها و أطردوا العصافير التي كانت تطربني..
فصرتّ غريبا وحيدا حزينا في أرض ترتكب فيها الجرائم باسم الحريّة..
إنّ قلبي يؤلمني .. أتوجّع على بلاد الياسمين الغضّ ..
أتحسّر على شباب يشتري الوهم في أقراص تذهب عنه العقل..
و أتساءل إلى أين يسير كلّ هؤلاء العابرين على ظهري ؟؟
أنا الرّصيف الذي شهد الثورة.. ثورة الحرّية و الكرامة ..
شهد الحرب و الحبّ .. و الموت و الحياة ..
شهد الصيف و الشتاء .. و الليل و النهار ..
أما أنا القابع هنا بلا حراك، فإني أنتفض متسائلا:
متى تكون الثورة ثورة عقول و عقليات ؟؟
متى تتحرّر الحرّية من فوضى الغباء و البشاعة و الانتهازية؟؟
متى أكون أنا، رصيف الحجارة، حُرّا من أغلال حرّيتهم ؟؟
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع