- "لا .. لا أريد .. لا أريد.. ماذا تفعل؟ ابتعد أرجوك، أرجوك .. اتركني"
همهمت "شراز" بصوت مرتبك و أجهشت بالبكاء..
- "اسكتي، لا ترفعي صوتك أو سأضطر لإبقائك غصبا عنك بعد الوقت".
بين فراغات الطاولات رأيت يده تمتد نحوها وجسد صغير لا يستطيع أن يرتب خطواته بسرعة للهروب من قبضة الوقت و سطوة المكان. لم أفهم ما الذي يحدث، أو ربما لم أستوعب ما حدث فعلا في ذلك اليوم.
رن الجرس فتسارع التلاميذ مندفعين للعودة الى بيوتهم
من عادة المعلم أن يمسح السبورة التي كتب عليها الدرس قبل انتهاء الحصة، يومها لم يسعفه الوقت، فكلّفني بالقيام بذلك، و كأنّه ملأ نوافذ قلبي الصغير بأصص من الورد ،قطفت ابتسامتي ووزعتها على الجميع ، كنت أعتقد أن السعادة في أن تقع عين المعلم علي، فيختارني من دون بقية التلاميذ لاقوم بهذه المهمة. أتذكر الاسم جيدا "قسم الياسمين"، التسمية وحدها مربكة، لا أعرف كيف صيغت؟ لا شيء يوحي ـ بكل ما علق بالقسم ـ أو بتوقّع ذلك المعنى، كان الحائط الداخلي أبيض لولا البقع السوداء التي اختلست اثار الاقدام نقاءه من آخره – تماما كما تفعل بنوايانا الحياة أحيانا و يختلس سوء الظن من مصداقيتها أوّلها - وربما هذا الطّلاء الابيض الذي وزّعه أبي الخدوم و الذي يثق به الجميع باستعجال، عندما أمره المدير بذلك لأنّ ميزانية المدرسة لا تكفي ليبذّر أموالها على حائط قنوع لا يشتكي الوجع الا في الشّتاء حين تسلخ سيول الامطار جلده
بدا لي هو السبب الوحيد الذي جعلهم يطلقون عليه هذا الاسم، لأنني لم أشتم يوما منه غير عفن الجوارب الممزوجة برائحة الأحذية النتنة، كجيفة منسية على قارعة طريق، او كقمامة داعب كلب سائب جسدها، فَنثَرت الرّيح عرقها ، ويزداد الأمر سوء حين يتبوّل أحد التلاميذ لا إراديا بعد أن يساوره الرعب من عقاب "سيدي عبد اللطيف" عندما يتوعده بأغلظ الأيمان بجلبه في العطلة الأسبوعية للمراجعة وكتابة الجواب مئات المرات، بعد عجزه عن الاجابة عن سؤاله الذي يبدو في ذهنه لغزا يستعصي حله، كان التلاميذ يطلقون عليه اسم "شرشبيل"، هو معروف بهذا النعت أكثر مما هو معروف باسمه الحقيقي "عبد اللطيف"، لم يروه يوما لطيفا أو ممازحا لأحد الأطفال، حتى النجباء منهم كان يشكرهم على تفوقهم ويمدح خصالهم دون أن يبتسم، كأن الابتسامة هي أيضا تخاف ملامحه المتجبرة، فتتخفى سجينة تحت شاربه الكثّ. كان صارما ولا يتسامح أبدا مع التكاسل والتقاعس، صوته الغليظ القوي يزلزل أسماعنا ويرجف قلوبنا عندما يغضب كمحرك دراجة نارية مهتريء يقودها همجيّ ، وويل لمن لا يصغي إليه بانتباه. وقد زادت لُكْنتُه الأمر ضُرّا.. حين يسترسل في تفسير الدرس كنّا نوشوش باسمه من أذن لأذن حتى لا يستطيع الهواء أن يوصل لسمعه ما نتداوله في ما بيننا من نعت، لكن الغريب في الأمر أننا كنا نُسبِّق كلمة "سيدي" بكل وقارها وقدسيتها وفخامتها وجلالها ثم نزاوجها النعت الذي يدل على الشرّ، فتولد التّسمية من أفواهنا مشوهة "سيدي شرشبيل".
منذ نعومة أظفارنا ننشأ على تناقضات المعاني، وازدواجية المباني، واختلاط المرادفات في لغة بوحنا وسلوكنا، ولا عجب حين تعوقنا الكلمات وتراوغنا عواطفنا نحيد بها نحو الطريق الخاطئ، يستعصي علينا الرجوع فنجد أنفسنا بعيدين كل البعد عن أحلامنا، وعن بناء شخصية متوازنة واضحة تدرك المفاهيم على حقيقتها، وتعترف بأخطائها، وتعبّر عن مشاعرها في تصالح مع ذاتها، دون خسائر فادحة. لا أعلم إن كنا نتوارث ذلك عن وعي أو عن غير وعي.
في الجانب الأيمن من باب المدرسة باب مخصص لدخول الاطار التربوي، اين يقف الحارس ليمنع اندفاع عفوية التلاميذ لكنّني كنت احتمي بقرابته كي اتسرّب من أمام المدير بسلام و لا تنهرني عصاه ، في الداخل يوجد ستة أقسام؛ كل قسم يحمل اسما من أسماء الزهور، وفي الجانب الأيسر العدد نفسه بالترتيب نفسه تماما. "الياسمين" هو القسم الأخير المتواجد في زاوية الجانب الأيمن يكاد لا يرى منه إلا بابه الأزرق وثلثي طاولة أرجوانية اللون من اللوح القديم، تسمع أزيزها بمجرّد ملامستها أو وضع شيء فوقها، وثقبين بحجم فنجان شاي، واحد على يمين الطاولة وواحد على يسارها، كانت توضع في وسطه محبرة، ثم عوضت بالأقلام الجافة.. تقريبا، وبعد السّاعة الخامسة وعشر دقائق مساء، في شتاء يوم الأربعاء لم يبق في المدرسة غيري و"شراز"، لم أكن أدرك أن القدر لعب دوره في إقحامي لأكون شاهدة على ما حصل، السعادة التي كنت ألاحقها في مخيلتي والتي مسكت بها يومها، أسقطتها دقائق غادرة ،عنيفة، تهكمت على مقدساتي وألصقت رؤوس أصابعها على فمي لتخرسني، ويبقى صداها ينز قهرا في صدري، ليست من عادتي أن أبقى بعد رنين الجرس، لأنني روضت أقدامي على الركض السريع .. أتذكّر جيدا أن في فترات الاستراحة في ساحة المدرسة الكبيرة جدا، المترامية الأطراف، والتي تحتوي على صنابير على امتداد الحائط الجانبي، وحمامات متلاصقة لا يغطيها حائط أمامي رُسم على أبوابها إما شكل بنت أو ولد، كإشارة انتباه لعدم الخلط عند الدخول،و الامر لم يكن يستحق رقابة ، وملعب مساحته ضعف مساحة الساحة، يفصلهما حائط من أشجار الكالبتوس الشاهقة، كانت المدرسة في ذهني هي الوطن الذي نتغنى به في أول الصباح عندما يصففنا المدير لنقوم بتحية العلم، وكنت أعتبر الإطار التربوي هم الجنود الحامين حماها، حتى أنني اخترت أكبر شجرة وأعرقها بيتا لي، ألجأ إليه عندما لا تسعفني أنفاسي، وأكاد أبلع لساني من شدة التعب بعد أن أجند كامل القسم للركض خلفي في محاولة يائسة منهم للامساك بي، أفضل لعبة في طفولتي تشعرني بالتميز والقدرة على دغدغة جيناتي القيادية، هي لعبة السباق "الشدّة و الحُلِّيلَة" ..
لم أكن يوما من النجباء في الدراسة، كنت أنتقل سنويا من صف إلى صف بملاحظة متوسط، أبواي أمّيان لا يكادان يفكّان الخطّ،قليلا ما يتعاركان مع الحياة على النجاحات البسيطة، ويتعارك الموت مع مشاعر الحب بينهما باستمرار .
"شراز" كانت بيضاء البشرة وأضخم مني بنية وأطول قامة، جسدها الممتلئ يظهرها أكبر من عمرها الحقيقي، وهي بنت الحادية عشرة ، عقلها كان يرفض ان يضبط ايقاعه على نسق السنوات التي يرقص عليها حجمها يفاجئونا دائما بنشاز سلوكاته وهو يغنّي للحياة . لقد بدأ نهداها يأخذان شكلا كرويا، يظهر ارتفاعهما وبعض تفاصيل تعرجاتهما من تحت الميدعة، التي لا يمكننا دخول القسم دون ارتدائها ، تبّانها القصير الذي لا تغير طيلة السّنة سوى لونه زاد في توهج أنوثتها ، على الرغم من أن المعلم في كل مرة يأمرها بعدم القدوم به الى المدرسة ، ويحثّها على احترام حرمة المؤسسة التربوية ، بعد أن يخصص ربع ساعة لوعظها، وليمكنها من تجفيف عينيها من البكاء لاستكمال الدرس.. لم يغرس المجتمع في ذهن طفلة سابقها الزمن في جسدها معنى أن يصبح أرضا صالحة للحرث، وقد تثمر فيه الأشجار تلقائيا بسرعة قبل مواسم الإثمار.. كانت "شراز" ترتدي تبانا قصيرا كعادتها وتتحرّك بكل أريحية في ذلك اليوم الذي انقلبت فيه المفاهيم في رأسي، وتصارعت المشاعر الموجعة، الصادمة والرافضة لتفاصيل ما حدث، كنت احاول ان أبلور الافكار في مساحة جمجمتي الصغيرة حين كادت ان تنفجر من تزاحم و تدافع جيوش السخط و الحيرة بين تَقَزُّز واشمئزاز، وكره وقسوة وخوف و أسئلة لم أجد لي نافذة للفرار منها .كيف لذلك الجدار المتين أن ينهار دفعة واحدة، ويسقط أمامي ليحطم معه المقدس، ويعرّي المدنس، و يخلّف وراءه أشلاء من قلبي لم أستطع الى الان جمعها كنت أعتقد ببديهتي أن الأنبياء والمعلمين والآباء من المقدسات التي لا يطالها الدنس، لا يمكنهم أن يسقطوا في حَمَأَة الرّذيلة، صَادَيْت أفكاري كي لا أفضح ما رأته عيني، وكي لا أَنْفُر من الدّراسة، وينتابني شعور اللاجئ الذي حرمه الخوف من وطن طالما اطمأن إلى حضنه، أخفقت في مضغ الماضي و ابتلاع غصة ذلك اليوم المر
كنت عائدة من ساحة المدرسة بعد أن بللت الطلاسة ألاعب فرحي و أعصر شعوري بالغبطة من أثر ما خلّفه اختيار المعلم لي كي انهي الحصة بمحو ما كتب بالطبشور على السبورة، بين الطلاّسة و الكلمات التي اكلتها يدي استفز أذني شهيق "شراز" وزفيرها الممزوج ببكاء هستيري في اخر القسم ، التفت لأستوعب الامر ، حارس المدرسة ممدود بين الطاولات، تساءلت في حيرة عما يبحث مع "شيراز" في الأرض، و ما سبب البكاء
اقتربت قصد التثبّت و المساعدة ، كنت أتقدّم كمن يمشي فوق حبل على ارتفاع شاهق شيء داخلي يرفض ان ينصاع لاوامر قدميّ، ترددت في السير إلى آخر القسم، شعرت بدوار فظيع ظننته من أثر الغبار الذي تناثر على وجهي، اهتزت الارض من تحتي تشقّق سقف ذاكرتي ، ارتجت السنوات في قلبي لم اعد أقدر على الحراك، وَجَم صوتي في لحظة تَخَبُّط عَوَتْ فيها كلماتي "أبي! ما الذي يحدث؟ ماذا هناك؟".
انقطع حبل الاسئلة و تهشّمت الاجوبة في رأسي
مر المشهد أشبه بلوحة ألغاز لم تكتمل قطعها لتتضح معالم صورها الصادمة ، كان أبي يسرع في إخراج يده من تحت تبان "شراز" ويقفل أزرار قميصها، محاولا إخفاء جرمه بصفع البنت والصراخ في وجهها..
همهمت "شراز" بصوت مرتبك و أجهشت بالبكاء..
- "اسكتي، لا ترفعي صوتك أو سأضطر لإبقائك غصبا عنك بعد الوقت".
بين فراغات الطاولات رأيت يده تمتد نحوها وجسد صغير لا يستطيع أن يرتب خطواته بسرعة للهروب من قبضة الوقت و سطوة المكان. لم أفهم ما الذي يحدث، أو ربما لم أستوعب ما حدث فعلا في ذلك اليوم.
رن الجرس فتسارع التلاميذ مندفعين للعودة الى بيوتهم
من عادة المعلم أن يمسح السبورة التي كتب عليها الدرس قبل انتهاء الحصة، يومها لم يسعفه الوقت، فكلّفني بالقيام بذلك، و كأنّه ملأ نوافذ قلبي الصغير بأصص من الورد ،قطفت ابتسامتي ووزعتها على الجميع ، كنت أعتقد أن السعادة في أن تقع عين المعلم علي، فيختارني من دون بقية التلاميذ لاقوم بهذه المهمة. أتذكر الاسم جيدا "قسم الياسمين"، التسمية وحدها مربكة، لا أعرف كيف صيغت؟ لا شيء يوحي ـ بكل ما علق بالقسم ـ أو بتوقّع ذلك المعنى، كان الحائط الداخلي أبيض لولا البقع السوداء التي اختلست اثار الاقدام نقاءه من آخره – تماما كما تفعل بنوايانا الحياة أحيانا و يختلس سوء الظن من مصداقيتها أوّلها - وربما هذا الطّلاء الابيض الذي وزّعه أبي الخدوم و الذي يثق به الجميع باستعجال، عندما أمره المدير بذلك لأنّ ميزانية المدرسة لا تكفي ليبذّر أموالها على حائط قنوع لا يشتكي الوجع الا في الشّتاء حين تسلخ سيول الامطار جلده
بدا لي هو السبب الوحيد الذي جعلهم يطلقون عليه هذا الاسم، لأنني لم أشتم يوما منه غير عفن الجوارب الممزوجة برائحة الأحذية النتنة، كجيفة منسية على قارعة طريق، او كقمامة داعب كلب سائب جسدها، فَنثَرت الرّيح عرقها ، ويزداد الأمر سوء حين يتبوّل أحد التلاميذ لا إراديا بعد أن يساوره الرعب من عقاب "سيدي عبد اللطيف" عندما يتوعده بأغلظ الأيمان بجلبه في العطلة الأسبوعية للمراجعة وكتابة الجواب مئات المرات، بعد عجزه عن الاجابة عن سؤاله الذي يبدو في ذهنه لغزا يستعصي حله، كان التلاميذ يطلقون عليه اسم "شرشبيل"، هو معروف بهذا النعت أكثر مما هو معروف باسمه الحقيقي "عبد اللطيف"، لم يروه يوما لطيفا أو ممازحا لأحد الأطفال، حتى النجباء منهم كان يشكرهم على تفوقهم ويمدح خصالهم دون أن يبتسم، كأن الابتسامة هي أيضا تخاف ملامحه المتجبرة، فتتخفى سجينة تحت شاربه الكثّ. كان صارما ولا يتسامح أبدا مع التكاسل والتقاعس، صوته الغليظ القوي يزلزل أسماعنا ويرجف قلوبنا عندما يغضب كمحرك دراجة نارية مهتريء يقودها همجيّ ، وويل لمن لا يصغي إليه بانتباه. وقد زادت لُكْنتُه الأمر ضُرّا.. حين يسترسل في تفسير الدرس كنّا نوشوش باسمه من أذن لأذن حتى لا يستطيع الهواء أن يوصل لسمعه ما نتداوله في ما بيننا من نعت، لكن الغريب في الأمر أننا كنا نُسبِّق كلمة "سيدي" بكل وقارها وقدسيتها وفخامتها وجلالها ثم نزاوجها النعت الذي يدل على الشرّ، فتولد التّسمية من أفواهنا مشوهة "سيدي شرشبيل".
منذ نعومة أظفارنا ننشأ على تناقضات المعاني، وازدواجية المباني، واختلاط المرادفات في لغة بوحنا وسلوكنا، ولا عجب حين تعوقنا الكلمات وتراوغنا عواطفنا نحيد بها نحو الطريق الخاطئ، يستعصي علينا الرجوع فنجد أنفسنا بعيدين كل البعد عن أحلامنا، وعن بناء شخصية متوازنة واضحة تدرك المفاهيم على حقيقتها، وتعترف بأخطائها، وتعبّر عن مشاعرها في تصالح مع ذاتها، دون خسائر فادحة. لا أعلم إن كنا نتوارث ذلك عن وعي أو عن غير وعي.
في الجانب الأيمن من باب المدرسة باب مخصص لدخول الاطار التربوي، اين يقف الحارس ليمنع اندفاع عفوية التلاميذ لكنّني كنت احتمي بقرابته كي اتسرّب من أمام المدير بسلام و لا تنهرني عصاه ، في الداخل يوجد ستة أقسام؛ كل قسم يحمل اسما من أسماء الزهور، وفي الجانب الأيسر العدد نفسه بالترتيب نفسه تماما. "الياسمين" هو القسم الأخير المتواجد في زاوية الجانب الأيمن يكاد لا يرى منه إلا بابه الأزرق وثلثي طاولة أرجوانية اللون من اللوح القديم، تسمع أزيزها بمجرّد ملامستها أو وضع شيء فوقها، وثقبين بحجم فنجان شاي، واحد على يمين الطاولة وواحد على يسارها، كانت توضع في وسطه محبرة، ثم عوضت بالأقلام الجافة.. تقريبا، وبعد السّاعة الخامسة وعشر دقائق مساء، في شتاء يوم الأربعاء لم يبق في المدرسة غيري و"شراز"، لم أكن أدرك أن القدر لعب دوره في إقحامي لأكون شاهدة على ما حصل، السعادة التي كنت ألاحقها في مخيلتي والتي مسكت بها يومها، أسقطتها دقائق غادرة ،عنيفة، تهكمت على مقدساتي وألصقت رؤوس أصابعها على فمي لتخرسني، ويبقى صداها ينز قهرا في صدري، ليست من عادتي أن أبقى بعد رنين الجرس، لأنني روضت أقدامي على الركض السريع .. أتذكّر جيدا أن في فترات الاستراحة في ساحة المدرسة الكبيرة جدا، المترامية الأطراف، والتي تحتوي على صنابير على امتداد الحائط الجانبي، وحمامات متلاصقة لا يغطيها حائط أمامي رُسم على أبوابها إما شكل بنت أو ولد، كإشارة انتباه لعدم الخلط عند الدخول،و الامر لم يكن يستحق رقابة ، وملعب مساحته ضعف مساحة الساحة، يفصلهما حائط من أشجار الكالبتوس الشاهقة، كانت المدرسة في ذهني هي الوطن الذي نتغنى به في أول الصباح عندما يصففنا المدير لنقوم بتحية العلم، وكنت أعتبر الإطار التربوي هم الجنود الحامين حماها، حتى أنني اخترت أكبر شجرة وأعرقها بيتا لي، ألجأ إليه عندما لا تسعفني أنفاسي، وأكاد أبلع لساني من شدة التعب بعد أن أجند كامل القسم للركض خلفي في محاولة يائسة منهم للامساك بي، أفضل لعبة في طفولتي تشعرني بالتميز والقدرة على دغدغة جيناتي القيادية، هي لعبة السباق "الشدّة و الحُلِّيلَة" ..
لم أكن يوما من النجباء في الدراسة، كنت أنتقل سنويا من صف إلى صف بملاحظة متوسط، أبواي أمّيان لا يكادان يفكّان الخطّ،قليلا ما يتعاركان مع الحياة على النجاحات البسيطة، ويتعارك الموت مع مشاعر الحب بينهما باستمرار .
"شراز" كانت بيضاء البشرة وأضخم مني بنية وأطول قامة، جسدها الممتلئ يظهرها أكبر من عمرها الحقيقي، وهي بنت الحادية عشرة ، عقلها كان يرفض ان يضبط ايقاعه على نسق السنوات التي يرقص عليها حجمها يفاجئونا دائما بنشاز سلوكاته وهو يغنّي للحياة . لقد بدأ نهداها يأخذان شكلا كرويا، يظهر ارتفاعهما وبعض تفاصيل تعرجاتهما من تحت الميدعة، التي لا يمكننا دخول القسم دون ارتدائها ، تبّانها القصير الذي لا تغير طيلة السّنة سوى لونه زاد في توهج أنوثتها ، على الرغم من أن المعلم في كل مرة يأمرها بعدم القدوم به الى المدرسة ، ويحثّها على احترام حرمة المؤسسة التربوية ، بعد أن يخصص ربع ساعة لوعظها، وليمكنها من تجفيف عينيها من البكاء لاستكمال الدرس.. لم يغرس المجتمع في ذهن طفلة سابقها الزمن في جسدها معنى أن يصبح أرضا صالحة للحرث، وقد تثمر فيه الأشجار تلقائيا بسرعة قبل مواسم الإثمار.. كانت "شراز" ترتدي تبانا قصيرا كعادتها وتتحرّك بكل أريحية في ذلك اليوم الذي انقلبت فيه المفاهيم في رأسي، وتصارعت المشاعر الموجعة، الصادمة والرافضة لتفاصيل ما حدث، كنت احاول ان أبلور الافكار في مساحة جمجمتي الصغيرة حين كادت ان تنفجر من تزاحم و تدافع جيوش السخط و الحيرة بين تَقَزُّز واشمئزاز، وكره وقسوة وخوف و أسئلة لم أجد لي نافذة للفرار منها .كيف لذلك الجدار المتين أن ينهار دفعة واحدة، ويسقط أمامي ليحطم معه المقدس، ويعرّي المدنس، و يخلّف وراءه أشلاء من قلبي لم أستطع الى الان جمعها كنت أعتقد ببديهتي أن الأنبياء والمعلمين والآباء من المقدسات التي لا يطالها الدنس، لا يمكنهم أن يسقطوا في حَمَأَة الرّذيلة، صَادَيْت أفكاري كي لا أفضح ما رأته عيني، وكي لا أَنْفُر من الدّراسة، وينتابني شعور اللاجئ الذي حرمه الخوف من وطن طالما اطمأن إلى حضنه، أخفقت في مضغ الماضي و ابتلاع غصة ذلك اليوم المر
كنت عائدة من ساحة المدرسة بعد أن بللت الطلاسة ألاعب فرحي و أعصر شعوري بالغبطة من أثر ما خلّفه اختيار المعلم لي كي انهي الحصة بمحو ما كتب بالطبشور على السبورة، بين الطلاّسة و الكلمات التي اكلتها يدي استفز أذني شهيق "شراز" وزفيرها الممزوج ببكاء هستيري في اخر القسم ، التفت لأستوعب الامر ، حارس المدرسة ممدود بين الطاولات، تساءلت في حيرة عما يبحث مع "شيراز" في الأرض، و ما سبب البكاء
اقتربت قصد التثبّت و المساعدة ، كنت أتقدّم كمن يمشي فوق حبل على ارتفاع شاهق شيء داخلي يرفض ان ينصاع لاوامر قدميّ، ترددت في السير إلى آخر القسم، شعرت بدوار فظيع ظننته من أثر الغبار الذي تناثر على وجهي، اهتزت الارض من تحتي تشقّق سقف ذاكرتي ، ارتجت السنوات في قلبي لم اعد أقدر على الحراك، وَجَم صوتي في لحظة تَخَبُّط عَوَتْ فيها كلماتي "أبي! ما الذي يحدث؟ ماذا هناك؟".
انقطع حبل الاسئلة و تهشّمت الاجوبة في رأسي
مر المشهد أشبه بلوحة ألغاز لم تكتمل قطعها لتتضح معالم صورها الصادمة ، كان أبي يسرع في إخراج يده من تحت تبان "شراز" ويقفل أزرار قميصها، محاولا إخفاء جرمه بصفع البنت والصراخ في وجهها..
-------------
17/3/2019
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع