اليوم، في رحلتي إلى قريتي..إلى مسقط رأسي بعد غياب طال كثيرا،منذ أربعة أشهر لم تطأ قدمي ثرى بلدتي.
اليوم،ربوع سليانة تناديني..لتحتضنني.
اليوم، غادرت الزّنزانة - منّوبة- التي طالما أسرتني،إنّها لَمكانٌ خانقٌ أتمنّى ألاّ أعود إليه مجدّدا لو لا الضّرورة..إنّها مكان مخيف رهيب، أنّى تلتفت الجدران تخنقك و الضّجيج يزعجك..فتشعر أنّك غريب بأرضٍ غير أرضك.
اليوم،سأودّع منّوبة لأرتمي بين أحضان قريتي التي زارها الرّبيع منذ أسابيع.
اليوم، سأغادر جدران منّوبة لأجد أمامي الحقول الواسعة يفرشها النبات الأخضر و الزّرع و تزيّنها الأزهار من شتّى الألوان و ينطّ فوقها الفراش..بعد أن عرّاها الشّتاء من كسائها الأخضر حتّى ظننّا بأنّ الأرض قد أصابها الموت جرّاء برد الشّتاء غير أنّ الربيع كعادته قَدِمَ بشمسه الخجولة فتبدأ تلك السّحب بالتّفتّت فيكتمل جمال لوحة الطّبيعة الإلهيّة ببساطها الأخضر الذي تزيّنه الأزهار بشتّى الألوان معلنة ميلادا جديدا..و معه ميلاد الذات المغتربة التي ذاقت الويلات.
كم اشتقت إلى قريتي المتواضعة و إلى أناسها الطيّبين و إلى مناظر الطّبيعة الخلاّبة الأخّاذة للألباب و إلى الوادي النّظير..إن قلت قريتي..قلت طيبة الأهل، قلت البساطة..قلت الجمال...قلت الحياة..كلّ شيء في قريتي يبعث على الحياة،الحياة التي وجدتها غائبة تماما عن المدينة بروتينها و بضجيجها المزعج.
اشتقت إلى أمّي..و إلى صوت أمي و إلى ذاك الصّباح الجميل حينما تطلّ الشّمس و يتسلّل نورها إلى غرفتي عبر السّتائر فيصاحبها صوت أمّي التي لا تهدأ إلّا حين توقظ الجميع.
حقّا إنّها الحياة، حينما تستيقظ أمّي باكرا و تعجن الدّقيق و تخمّره لتعدّ لنا "خبز الطّابونة"الشّهي .
إنّها الحياة الرّائعة في قريتي الصّغيرة بمتساكنيها البسطاء الذين يأتون من كلّ صوب مهلّلين بقدومك و الأسئلة في أفواههم كثيرة،كيف حالك؟لماذا أصبحت نحيفة هكذا؟ آلاف الأسئلة.. أغلبها لا تجد لها أجوبة.
في هاته السّاعة، في سيّارة الأجرة، الجميع صامتون الكلّ يفكّر في مشاغل الحياة..و غلاء الأسعار..أجلس في المقعد الخلفي تارة أتطلّع إلى العالم الخارجي الذي يحجبه عنّي زجاج النّافذة و طورا أتطلّع في وجوه الرّكاب من حولي..وجوه شاحبة مصفرّة،أفواه صامتة، أعينٌ بريقها خافت،عقول شاردة..ربّما آلاف الأسئلة في أذهانهم كتلك الأسئلة االتي تجول هاته السّاعة في ذهني، كيف سيكون اللّقاء؟ كيف حال أمّي أ مازال وجهها شاحبا ؟قاطعت أسئلتي الكثيرة كلمات الأغنية في سيارة الأجرة"راجعلك لمّيمة راجع لبلادي راجع لتراب أجدادي"يا ترى هل كلّ الذي يحدث من محض الصّدفة..؟! لست أدري..!! يا ترى أ مازال أخي الصّغير " بلال" ولدا شقيّا كعادته..؟ اشتقت إليه كثيرا، ما خطبه هذه المرة،ليس من دأبه ألاّ يتّصل بي و يسألني أين وصلت؟ ماذا اشتريت لي..؟؟
انتبهت من غفوتي مذعورة و الدّمعة تحرق خدّي..بلال أخي الصغير أيّ لقاء هذا دونك..بلبلي أيّ موت هذا أخذك منّي..بلبلي أيّ لقاء يتيم هذا دون ضجيجك.. دون بسمك اللطيفة..دون براءة وجهك..دون صخب صوتك..كلً شيء يتيم اليوم في قريتي..في بيتي .
أخي الصغير.. بلبلي..اليوم كل شيء حزين لحزني حتى الطقس ..غيوم كثيفة ..ريح باردة.. الشمس لم تشرق وكيف لها أن تشرق و أنت لست هنا.
بلبلي منذ رحلت لم أعد إلى قريتي.. لكنني اليوم عدت رغم أنفي،عدت و الألم يمزّقني...أخي كيف سأفتح الباب و لا أجدك أنت أول المستقبلين؟؟؟ كيف سأتقبل فكرة رحيلك..فكرة موتك..؟
رحمك الله "بلبلي".
/أيّ لقاء يتيم هذا دون ضجيجك؟...
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع